في 3 أيلول الماضي خرج الرئيس سعد الحريري من اجتماع عُقد في قصر بعبدا، دعا إليه الرئيس ميشال عون، ليعلن أن الحكومة قررت إعلان حال الطوارئ الاقتصادية، بعدما كانت وكالات التصنيف الدولي قرعت جرس الإنذار وهددت بتخفيض لبنان إلى مرتبة الدول الفاشلة، لكن وكالة «ستاندرد أند بوز» أعطته فترة 6 أشهر ليثبت أنه قادر، أو على الأقل الانخراط في ورشة إصلاحية تحول دون انهياره.
يومها قيل إن الاجتماع وضع ورقة إصلاحية جاءت بالتوازي مع العمل على وضع موازنة سنة 2020 على أساس خفض عجز الدولة إلى أقل من نسبة 7 في المائة، ومنذ ذلك الحين حتى اليوم، وقد مضى شهر ونصف الشهر على إعلان حال الطوارئ الاقتصادية، التي تحولت في الأسابيع الماضية تراشقاً من قوى سياسية عدة تقدمت باقتراحات للإصلاح، بعدما شُكلت هيئة وزارية ومن الخبراء، لتوحيد المسار الإصلاحي الذي يتجاوب مع حال الطوارئ.
الوقت ينزف مثل الساعة الرملية، وسعد الحريري يتحدث عن فرصة 3 أشهر لا أكثر، لكن حتى هذه اللحظة ليس واضحاً أن اللجنة المذكورة قد وضعت الخطوط الضرورية، للبدء بورشة إصلاحية تحول دون الانهيار، ففي الأسابيع الماضية ظهر خلاف مضحكٌ مبكٍ، في وجهات النظر حول ما إذا كان يفترض بالموازنة أن تتقدم على الخطة الإصلاحية، أم أن الإصلاحات يفترض أن تأتي متلازمة من صلب هذه الموازنة.
وقيل إن الخلاف بين من يدعو إلى موازنة تقوم على خفض الإنفاق وفرض الضرائب، وهو ما يهرب معظم السياسيين من الحديث عنه حرصاً على الشعبوية، وبين موازنة تقوم على المباشرة فوراً في إصلاح حقيقي، يطالب المانحون لبنان به، سواء في سيدر أو في البنك الدولي.
وهكذا تبدو الدولة غارقة في هذا الجدل العقيم، بينما الأزمة تتفاقم على أكثر من صعيد، خارجياً وداخلياً، في الخارج هناك خوف من أن المليارات التي رصدها مؤتمر سيدر، صارت معلقة في انتظار أن تطبق الحكومة اللبنانية ما التزمت به، لكنه ليس من المؤكد أنها ستقوم بذلك، وسبق للسفير بيار دوكين المكلّف تنفيذ مقررات المؤتمر، أن زار بيروت مرتين وقابل المسؤولين، وانتهى بخلاصات فاضحة لم يتردد في الإعلان عنها، في المرة الأولى أبدى استغرابه عندما طلبوا منه تحويل القروض هبات من الدول المانحة، لأنه ليس من السهل تنفيذ الإصلاحات، وفي المرة الثانية بعد 6 أشهر، قال إنه لم يجد في بيروت شيئاً غير سيئ، بمعنى أن سوء الفساد والإهدار مستمر، ناصحاً اللبنانيين بالمثل الفرنسي الذي يقول: «بمقدار ما تساعد نفسك تساعدك السماء»!
خارجياً أيضاً، تردد أن البنك الدولي، أحد أكبر المساهمين في سيدر (4 مليارات دولار) قد سئم الانتظار، وأنه اتجه إلى صرف قروض كان رصدها لقطاع الكهرباء، لكن الحكومة الفرنسية وجدت في ذلك خرقاً للالتزامات في المؤتمر المذكور، وإفشالاً له ينعكس سلبياً على صورتها المعنوية، لكن يبدو أن البنك الدولي رفض وجهة النظر الفرنسية، على خلفية التقرير الذي سبق أن وضعه بعنوان «التقييم الاستراتيجي لبرنامج الاستثمارات العامة»، الذي طلب من لبنان المباشرة بإجراء إصلاحات هيكلية وقطاعية، لضمان تحقيق الأهداف الأساسية للبرنامج الحكومي، بهدف خفض الدين العام (95 مليار دولار) وتحقيق نمو اقتصادي وخلق فرص عمل!
داخلياً، تفاقمت المشكلة أكثر في ظل أزمة الدولار وشحّه في الأسواق؛ حيث رفع الصيارفة سعره بداية، ثم كرّت سبحة التلويح بالإضرابات المطلبية، أولاً عندما هددت محطات البنزين بالتوقف عن العمل، ما أجبر حاكم البنك المركزي رياض سلامة على إصدار تعميم لتجاوز الأزمة، مع أن هذا ليس من اختصاص المصرف المركزي، فالقصة بين المصارف والمستوردين، وهو لا يتعاطى بالعملة الورقية ولا بفتح الاعتمادات. ثانياً بعد تحذير الأفران من الوصول إلى أزمة خبز، لأن مستوردي القمح يستغلون الظرف لتحسين أرباحهم، وكأنه بات مطلوباً من الذي يشتري ربطة الخبز أن يدفع بالدولار، لا بالليرة اللبنانية، خلافاً للدستور الذي يحدد العملة الوطنية، وثالثاً ارتفع صوت الصيدليات ومستوردي الأدوية على الخلفية عينها.
المظاهرات المطلبية مستمرة بعدما وصلت نسبة البطالة إلى 50 في المائة، لكنه تردد قبل أيام أن عملية مشبوهة تقف وراء أزمة الدولار، عندما تبين أولاً أن لبنان يستورد في العام بمبلغ 20 مليار دولار، ويستهلك 5 مليارات، بما يوحي أن التهريب عبر الحدود السورية يتم في الاتجاهين، بضائع سوريا تغزو الأسواق اللبنانية، وبضائع ودولارات تعبر إلى سوريا، وربما تكمل طريقها إلى إيران عبر العراق!
تصريحات المسؤولين متناقضة، بعضهم يقول إن المعابر تحت المراقبة، وبعضهم يقول إنها فالتة، وهذا ليس غريباً قطعاً، في بلد تزداد الهوة بين قواه السياسية، ولم تعد تعرف أين تصل حدود الدولة، وأين تقف حدود دويلة «حزب الله»، وفي هذا السياق كان آخر الإبداعات القول إن «حزب الله» يحمّل متلقفي الرغبات الأميركية ومنفذيها تبعة التدهور الاقتصادي!
غريب، لكن هذا الكلام هو تماماً كمن لا يرى في الأزمة الاقتصادية المتشعبة والمتوحشة نهباً وسرقة وتهرباً من الضرائب وإغراقاً للدولة بعشرات الآلاف من المنتفعين، وما يخنق لبنان سوى قرار العقوبات الأميركية على إيران و«حزب الله»، وقد سبق أن قيل كلام فهم منه أن الحزب يريد من لبنان والمصرف المركزي ورياض سلامة، أن يقوموا بما عجزت عنه إيران وتركيا وروسيا حتى الصين ودول كبرى أخرى، في مواجهة الولايات المتحدة، مع أن الأمر في بُعده يرتبط بالدورة المعروفة للنظام الاقتصادي العالمي القائم على الدولار، حتى الدول الأوروبية لم تتمكن من مواجهة العقوبات على إيران، ويراد من النظام المصرفي اللبناني أن يواجه الولايات المتحدة، ربما على خلفية سياسية هدفها الواضح إلحاق لبنان اقتصادياً وسياسياً بمحور المقاومة.
داخلياً، لا ضرورة للحديث عن الفساد والسرقة ونهب المال العام، وهو ما تبارى النواب في عرضه خلال مناقشة موازنة 2019، لكن معظمهم كما يقال: «شركة حلبية» حيث يتقاسمون المنافع على قاعدة باتت معلنة جهاراً، وهي المحاصصة، وليس هناك بلد في الدنيا يتم توزيعه حصصاً بين القوى السياسية، لكن المعادلة التي تحول وستحول دائماً دون حصول إصلاح حقيقي في لبنان، هي أن الطاقم الفاسد منذ زمن بعيد، هو الذي يفترض أن يقوم بالإصلاح، فالداء هو الدواء، ولهذا فإن ما يجري بات يخضع بالضرورة لقاعدة واحدة: «تنشرون غسيلنا الوسخ ننشر غسيلكم الوسخ»، ولأنه ليس في لبنان غسيل سياسي ناصع، لم يتردد إدوارد غابريال من «تاسك فورس»، أن يكتب مؤخراً بعد زيارته إلى بيروت نصيحته الذهبية: «لا يمكن تنظيف البيت بممسحة وسخة».
ولكن ما العمل في النهاية؟ ها هو البطريرك الماروني بشارة الراعي يقول: «إن لبنان في حاجة إلى مسؤولين جدد من نوع آخر»، ولكن لا داعي لسؤاله من أين نأتي بهم. عندما يقول الرئيس نبيه بري: «إن الوزراء ليسوا خلفاء راشدين»!
نعم، من أين نأتي بهؤلاء؟ عندما يقرر الإيطاليون مثلاً تخفيض عدد نوابهم بنسبة 35 في المائة لأسباب اقتصادية، ويقرر الملك عبد الله الثاني وقف رواتب النواب والوزراء، بينما في لبنان المسكين 350 نائباً حالياً وسابقاً وراحلاً يتقاضون منذ 30 عاماً 30 مليون دولار سنوياً… فعلاً؛ من أين أيتها السماء؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك