ميزان العدالة... المعطّل
27 Jan 202318:33 PM
ميزان العدالة... المعطّل

كتب جاد سعد: 

هو التّوصيف الحقيقي الصّريح على لسان نائب الأمّة ونقيب المحامين السّابق ملحم خلف.

يوم ٤ آب المشؤوم، انفجر فسادهم وإهمالهم في بيروت، فأغرق ستّ الدّنيا بدماء الأبطال الأبرار، وأدخلها حالةً من الحزن والعزاء غير متناهية.

يومها، مات من مات، ومات من عاش أيضًا. كلّنا متنا في ٤ آب، كلّ شيءٍ مات، إلّا ضمائرهم الميتة أصلاً.

يومها، دفنّا أشلاء ضحايانا، داوينا جروحنا، رمّمنا بيوتنا، حملنا أدوات التّنظيف ونفضنا الغبار عن وجه عاصمتنا الحبيبة. وانتظرنا... انتظرنا إنقضاء ٥ أيّام بعد الإنفجار لمعرفة من فجّرنا وقتلنا ودمّرنا وحطّمنا. أفلا تذكر، يا شعب لبنان العظيم، أنّ ثمّة من وعدنا بمعرفة الحقيقة بغضون ٥ أيّام ومحاسبة الفاعلين؟

لستُ أكتب لأتكلّم بالسياسة أو أدخل في زواريب المناكفات القضائيّة السياسيّة. بل إنّي أكتب بقلم شاب مغترب عشريني جفّ حبر الرّجاء والأمل فيه.

في ٤ آب ٢٠٢٠، إنفجر المرفأ. وهو الشّيء الّذي من المفترض أن يرمز إلى الوصول لبرّ الأمان. 

إذاً بالمختصر، في ٤ آب ٢٠٢٠، إنفجر برّ أماننا. فغدونا نعيش بعيداً عمّا يسمّى دولة القانون والأمان، ورأينا أنفسنا نقطن في "مزرعة" لبنان الكبير...

في شرائع الأوطان، يُعتبر العدل أساس الحكم. أمّا في شريعة المزرعة، الأقوى هو من يحكم.

في شرائع الأوطان، يستقيل المسؤول من اللّحظة الأولى ويتحمّل مسؤوليته. أمّا في شريعة المزرعة، يتمسّك بموقعه أكثر ليحمي المجرمين والمتّهمين.

في شرائع الأوطان، يمثل الجميع أمام القاضي، فلا أحد فوق القانون. أمّا في شريعة المزرعة، يُهدّد القاضي في عقر داره، تُكفُّ يده، ويُمنع من استكمال تحقيقه.

في شرائع الأوطان، يُحاسب المُجرم. أمّا في شريعة المزرعة، تُسجن الضّحيّة.

وهنا، تأتي على ذهني يا وليام نون، جملة تُردّد في ترانيم الجمعة العظيمة على لسان السيّد المسيح: "تُرى من هو المدّعي، وما هو وجوب قضائي؟". 

بعد سنَتَيْن ونصف تقريباً، ألم يحن الوقت لمعرفة الحقيقة؟ ألم يحن الوقت لتُحرّك ضمائركم؟ كيف لا يستوقفكم مشهد أباء وأمّهات على الطّرقات حاملين صور أبنائهم وبناتهم، متّشحين بالأسود؟ أهو قلبٌ في صدوركم أم حجر؟ أظنّ أنّ لا هذا ولا ذاك، لأنّ حتّى الحجر بكى يوم ٤ آب...

وأنتنّ أيّتها الأمّهات، ماذا أقول فيكنّ؟ نتحصّن بصلابة مواقفكنّ ونتميّز بحكمة عقولكنّ. ستَبْقَيْنَ مصدر رجاء لنا كلّما عصفت في وطننا رياح اليأس والإستسلام.

أمّا عن الخاتمة، فالكلماتُ تعصيني بسبب هيبة الموضوع. إلّا أن الخاتمة هذه، هي فقط لتذكّركم باللّيلة المشؤومة. 

تذكّروا ليلة اتصلنا بكلّ الأشخاص الّتي نحبّ لنرى إن كانوا على قيد الحياة أم لا.

تذكّروا كم بحثنا عن مستشفى تستقبل جرحانا.

تذكّروا كيف بحثنا عن أشلاء أحبابنا ودفنّاها مع أكياسٍ من التّراب.

تذكّروا كيف بكت عيوننا ونحن أمام التّلفاز، نشاهد أهالي الضّحايا يقولون أسماء أقاربهم بحثًا عنهم.

تذكّروا كيف طموحنا أصبح أن نجد المفقودين لنكرّمهم بدفنٍ يليق بهم.

تذكّروا كيف علّقنا آمالنا على كلبٍ تشيلي.

تذكّروا كيف نزلنا الشّوارع، نشحد عاطفة رئيس جمهورية أجنبي.

تذكّروا والدة محمّد العطّار "إبني حلو ومليح وعيونو عسليّة"، تذكّروا العروس سحر، تذكّروا الملاك ألكسندرا، تذكّروا عائلة حتّي، تذكّروا الجرحى والشّهداء الأحياء الّذين يصارعون حتّى يومنا هذا...

عفوا على قساوة الذّكريات، لكن هذا ما حدث بالفعل، وهذا ما يستدعي الوصول للحقيقة، لكي لا يبقى ميزان العدالة... معطّل.