كتب أحمد الأيوبي في "اللواء":
إنطلقت ثورةُ 17 تشرين 2019 في لحظةِ غضبٍ شعبيٍّ عارمٍ على إجراءات حكومة الرئيس سعد الحريري الجائرة بحقّ الناس، وتحوّلت جزءاً من معادلة الصراع الدائر في البلد، حتى أنّ حكومة حسان دياب تدّعي ولادتها من رحم هذه الثورة وأن وزراء منها «ثوريون» وهم يتحرّكون بوحي المطالب الشعبية.
سيطرت شعارات مكافحة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة على المرحلة الأولى من الثورة التي أجبرتها جائحة كورونا على التزام المنازل وبالتالي التوقّف عن النزول إلى الشارع. وخلال فترة سيطرة الوباء على الموقف، انكشفت المزيدُ من عورات هذه السلطة، ولمس اللبنانيون أن تحالف السلاح والفساد تحت شعار «نسكتُ عن فسادكم لتسكتوا عن سلاحنا» هو أساس المعضلة في البلد، وشاهد اللبنانيون وقائع فاضحة لاستهتار هذا التحالف بكلّ قيم النزاهة والشفافية، كان آخرُها تراجع «حزب الله» عن اعتراضه على صفقة معمل سلعاتا للكهرباء وتمريرُه لهذا الملف، رغم كلّ روائح الفساد الخارجة منه، والممتدة من شواطئ سلعاتا حتى القصر الجمهوري.
لكلّ ارتكاب تبرير وفلسفة
واجه اللبنانيون حقيقة أنّ عند محور الممانعة فلسفة وتبريراً لكلّ جريمة أو ارتكابٍ أو فساد: فاستخدام السلاح ضدّ شركائه اللبنانيين في 7 أيار 2008 «يوم تاريخي عظيم».
والحفاظُ على الغطاء المسيحي لـ«حزب الله» وسلاحه يسمح بالتسويق للفساد على أنّه ضرورةٌ وطنية، فلا يستحيي نواب الحزب ووزراؤه من «ضبضبة» ملفات الفساد، ومن الانقلاب على تصويتهم في مجلس الوزراء لتمرير صفقة معمل سلعاتا، بذريعة المصلحة العليا للمقاومة..
والتورّطُ في قتل الشعب السوري وتشريده يصبح محاربةً للإرهاب، رغم أنّ الثورة السورية سبقت ظهور التنظيمات الإرهابية التي ليست بعيدة عن الإنتاج الممانع، بسنوات.
وفي نظر الممانعة أنّ تطبيق العقوبات على نظام بشار الأسد بعد كلّ ما فعله في سوريا «خنقٌ» لـ«لدولة السورية»، وأنّ التهريب من لبنان إلى سوريا وحرمان الشعب اللبناني من طحينه وموارده النفطية.. واجب وطني.. ومنعُ التهريب مشاركة في حصار سوريا.
خطأ تجاهل السلاح غير الشرعي
كانت فترةُ الحجر المنزلي تحت وطأة كورونا كافية لدفع اللبنانيين إلى الاستنتاج بأنه كان من الخطأ تحييد سلاح «حزب الله» عن المعركة وأنّ هذا التأخير مكّن الحزب من تثبيت قواه في السلطة، ومن اختراق مجموعات في الشارع، باتت مهمّتها تعطيل أيّ توجّه ثوري عن المطالبة بحصرية السلاح بيد الدولة أو تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، واستعادة سيادة لبنان المسلوبة بوجود جيش واقتصاد وسياسة خارجية، خارج نطاق الدولة.
وقفاتٌ لتطبيق القرار 1559
من هذا المنطلق بدأت الموجة الثانية من التحرّكات الشعبية تجهر بحتمية الوصول إلى تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من التأييد الشعبي لمطلب حصرية السلاح بيد القوى الشرعية وتطبيق القرار 1559 وإنهاء حالة الدويلة داخل الدولة.
في هذا الإطار جاءت الوقفة التي نفذتها مجموعة الـ128 أمام قصر العدل في بيروت، وصدرت خلالها مواقف واضحة تؤشّر إلى كسر الممنوعات التي حاول «حزب الله» فرضها وإجبار اللبنانيين على التطبيع معها، وهي اعتبار سلاحه «مقدّساً» و «خطاً أحمر» يُمنع الاقتراب منه باعتباره أحد المحرّمات الكثيرة التي فرضها على اللبنانيين.
هذه الدعوة لاقت تجاوباً على امتداد الساحة اللبنانية، فتداعى الناشطون إلى تنفيذ وقفةٍ تحمل شعار «لا للدويلة، لا للسلاح غير الشرعي» وللمطالبة بتطبيق القرار 1559 بجميع مندرجاته، اليوم الجمعة، في ساحة النور أيقونة الثورة في طرابلس، الساعة الثالثة والنصف عصراً، على أن تشارك فيها مجمل المجموعات الناشطة في المدينة والجوار.
المناورات داخل السلطة لم تعد مجدية
يواجه اللبنانيون اليوم حقيقةً لم تعد تخفى على أحد، ولم تعد قابلة للدحض أو أو التأويل أو التدوير ، وهي أنّ السياسة انتهت في لبنان، والعمل من داخل دهاليز السلطة أصبح شبهة ولم يعد نضالاً سياسياً، وأنّ الشعب أصبح في وضعيةِ المواجهة المكشوفة مع أصل المشكلة: «حزب الله» وسلاحه وانتقاله المعلن إلى ضرب الصيغة والانقلاب على الدستور واتفاق الطائف.
يدرك اللبنانيون أنّ المناورات من داخل السلطة لم تعد مجدية. فمجلس النواب تتحكم به أغلبية التحالف بين السلاح والفساد، والحكومةُ مأمورةٌ من هذا التحالف الذي لن يخرج منه ومن هذه المنظومة أيُّ حلٍّ حتى لمشاكلنا البسيطة، بدليل الفشل الذريع لحكومة التحالف الحاكم، وبالتالي فإنّ كلّ تجاهلٍ لضرورة الخروج من شرنقة منظومة السلاح والفساد هو تأجيلٌ لوقوع المحظور وتأخير لاستحقاق المواجهة الحتمية.
وفي هذا السياق، لا بدّ من إدراك المجموعات الثورية أنّ كلّ مواجهة تتجنّب السلاح غير الشرعي هي مضيعةٌ للوقت والجهد والثورة، وأنّ كلّ نقاشٍ ينطلق من اعتبار سلاح «حزب الله» مقدّساً أو «خطاً أحمر» هو نقاشٌ فاسد ومخالفٌ لمنطق الدولة والحرية والعدالة.
لهذا، فإنّ الانتقال إلى تعبير الشعب عن إرادته للتخلّص من الاحتلال غير المعلن لسلاح «حزب الله» هو اختصارٌ للطريق، لأنّ من يظنّ أن الأمور ستبقى على حالها من الهبوط البطيء للكارثة الاقتصادية والسيادية، مخطئ وغير مُدرِكٍ لطبيعة المشروع الإيرانيّ في لبنان، الذي وصل إلى مرحلة الإعلان عن نفسه بكلّ تجلّياته السياسية والعقائدية، وسيجد الذين يهربون من مصطلح الذميّة أنفسهم أمام حالةٍ لا تشبه أيّ تجربةٍ أخرى من التغيير الإكراهي لكلّ منظومة العيش والتفكير والعمل.
لا يطرح الداعون لسلسلة الوقفات الاحتجاجية ضد السلاح غير الشرعي والداعون إلى تطبيق القرار 1559 هذا الشعار على خلفيّةٍ طائفيّة أو مذهبيّة، فالشيعةُ مدعوون قبل غيرهم لنفض غبار هذه العقود العجاف التي حوّلت لبنان إلى مشروع دولة جائعة تتخبّط في الفوضى والضياع، ومشاركتهم في هذه التحرّكات جزء من حماية الطائفة الشيعية ومن صيانة الصيغة اللبنانية، بتنوّعها الديني والثقافي.
لبنان بين الحرية والسقوط
دخل الشعب اللبناني سباقاً مصيرياً بين الحفاظ على كيانه وصيغته ومستقبله، وبين السقوط النهائي في دوّامة المحور الإيراني، كما سبقه إلى هذا السقوط العراقُ وسوريا واليمن، وتكفي نظرة واحدة لحال هذه الشعوب لندرك أيّ مصيرٍ ينتظرنا، فنحن اليوم بين إعلانين: إعلان «لبنان الرسالة» دولةً حرة مستقلّة، أو إعلان «لبنان ولاية الفقيه» والغرق في مستنقعات القتل والفوضى. لهذا تحمل وقفة طرابلس قيمة اعتباريّة عالية، لعلها تشعل الثورة الفعلية في وجه مشروع الظلام القادم.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك