كتب الأب مارتن عيد:
بهذه الجديّة التي لم نعتَد على غيرها وبهذه الصراحة، أخاطبُ بعض مَن خانتهم الذاكرة من شركاء الوطن، أو مَن أنكروا تاريخهم من أجل بعض المصالح من هنا أو هناك، أو مَن تجرؤوا على السخريّة أو الإتهام بالتفريط بسيادة الوطن وجعله عُرضةً للجيوش الأجنبيّة وساحةً للحرب والخراب والإحتلال، ولأنّه "لا يجوز السكوت" ومن واجبنا أن "نكون واضحين" ولأننا أوفياء لبطريركيتنا ولمارونيّتنا وللبنانيّتنا، دعونا نستذكر وإيّاكم القليل من تاريخ "مَن أعطيَ لهُ مجد لبنان".
يقول المونسنيور ميشال حايك: "بمجرد إنشاء بطريركية مستقلة، اقترف الموارنة تمرداً بجرأة غير معقولة، ليس فقط لأنهم اتخذوا بطريركاً من دون اللجوء الى إذن الامبراطور البيزنطي أو الخليفة الأموي، بل لأنهم رفضوا طلب فرمان تعيين من أي كان".
بهذه الكلمات، التي تردّنا إلى نشأة الكنيسة المارونيّة، ندرك أنّنا أمام شعبٍ لم يعرف التبعيّة يوماً، وكان يناضل ساعياً دوماً إلى الحريّة، مما جعله يقطن في جبال لبنان الوعرة وينطلق بخياراتٍ أساسيّة، غلّب فيها مبدأ الإنفتاح والوصل على مبدأ الإنغلاق والفصل بغية إرادة عيش مشترك، وهذا ما يشرح رفض الموارنة أن يكون لهم بلد يتفرّدون به وحدهم، فتواصلوا مع المحيط المختلف بحكمةٍ ودراية وبمرونة تمازجها صلابة مع حرصهم الدائم على الحريّة والأصالة، فلا عدوّ لهم سوى عدوّ حريّتهم، والحريّة بالنسبة إليهم هي الحريّة المدنيّة السياسيّة، التي بدونها لا مجال للحفاظ على أيّ حريّة أخرى، دينيّة كانت أم غير دينيّة.
بهذه الصلابة والإنفتاح رفضوا الخضوع، وتخطّوا مراحل الفاتح العربيّ الإسلاميّ، وعهد المماليك والمقدّمين، وحكم العثمانيّن والقبائل التركمانيّة، وتعاونوا مع شركائهم من الدروز وأبناء الجبل وسهّلوا التواصل مع الغرب لتتبلور نواة فكرة لبنان الحديث التعدديّ، ناشرين العلم والمعرفة في محيطهم محطّمين قيود الجهل والأميّة، متخطّين مأساة مرحلة القائمقاميّتين فنبذوا الأحقاد وأقبلوا على التعاون مجدداً مع شركائهم في ظلّ نظام المتصرفيّة لإنجاح تجربة العيش المشترك بينهم وبين الطوائف الأخرى في جبل لبنان، فتشكلّت النواة السياسيّة والقانونيّة والجغرافيّة التي أدّت لإعلان دولة لبنان الكبير في 1 أيلول سنة 1920.
ومنذ ذلك التاريخ حتّى يومنا هذا، وبالرغم من الإنتكاسات والحروب والأطماع، والبطريركيّة تعمل من أجل حريّة لبنان وإستقلاله. فرغم بعض أخطاء "المارونيّة" إلا أن الشعار الدائم للموارنة وبطريركهم كان ولا يزال سيادة واستقلال وحريّة لبنان فوق كلّ اعتبار.
هذا ما يؤكّده الفيلسوف اللبنانيّ الأورثوذكسي شارل مالك إذ يقول: "بإمكان الموارنة أن يتساهلوا في كل شيء أو يتفاوضوا حول أي شيء ما عدا هذه الحرية الكيانيّة. بدونها لا وجود لهم وحتى لا معنى لوجود لبنان، حتى إن وُجد. ووجوده عندئذ كعدم وجوده تمامًا. وعندما يتساوى الوجود وعدمه، ينعدم. أما بوجود هذه الحرية، قائمة مضمونة ثابتة، فباستطاعتهم مع الزمن أن يستعيدوا كل شيء تساهلوا به أو تنازلوا عنه. أما بدونها فما يملكون، أو يظنون أنهم يملكون، سيخسرون".
وها نحن اليوم، أمام "رؤيةٍ إستقلاليّةٍ" واضحة، تجلّت بكلماتٍ نبويّة ثائرة، أتت على لسان من يحمل هذا الإرث البطريركيّ العظيم، ستُأسس لا محال، لمرحلةٍ جديدة من تاريخ لبنان الكبير، حلم البطريكيّة والبطاركة العظام باستكمال بناء الدولة المدنيّة المحايدة، التي تفصل بين الدين والدولة من دون أن تفصل بين الإنسان والله، والتي تحترم جميع الأديان، يتساوى فيها المسلمون والمسيحيّون، تحت راية القانون وتقديس الحقّ بالحريّة والحياد، وعدم ربط المسار والمصير بدولةٍ أجنبيّةٍ غريبة، وعدم إحتكار إختيار العدوّ والصديق، وعدم تفضيل مشاريع خارجيّة على حساب حقّ الشعب بالعيش الكريم، والتعاون مع الخارج فقط من أجل مصلحة لبنان واللبنانيين.
فيا أيّها السامعون، نحن قومٌ لا يمازح، بل يقاوم ويصمد في سبيل تحقيق مبتغاه، ولو لَم نكُن، لما كُنتم، ولما كان لبنان.