غاب السفير فؤاد الترك، قبل أن يتمكّن من تحقيق حلمه الكبير، انطلاقاً من معادلة طرحها: إذا كان البابا الراحل الطوباوي مار يوحنا بولس الثاني قد أعلن خلال زيارته أنّ لبنان أكبر من وطن، إنّه رسالة، فلماذا لا يُصار إلى اغتنام زيارة قداسة البابا بنيديكتوس السادس عشر، لتحويل الشعار إلى حقيقة وتكريس لبنان الرسالة، ملتقى حوار الحضارات والأديان وفق حياديّة إيجابيّة مضمونة دوليّاً، ولا تتنكر لعروبتها"؟
وكان الاقتراح قد أخذ طريقه إلى كبار المسؤولين مطلع هذا العام، ووجد تفهّماً وتجاوباً، عبر حوار هادئ وبعيد عن الغوغائيّة، فيما كانت بكركي تتابع هذا الجهد باهتمام، وبكثير من التدبير وفق موضوعيّة مصمّمة وهادفة.
ووضع الفاتيكان في أجواء هذا التوجّه بواسطة السفارة البابويّة في حريصا، وبدأ التداول في آليات التحرّك، وتولّى الرئيس نبيه بريّ تظهير الفكرة على مستوى الرأي العام، من خلال إعلانه في مناسبات عدّة حيادية لبنان وضرورة تكريسه وطناً لحوار الحضارات، لا بل ذهب إلى الأبعد مُبدياً استعداده لاستضافة ثلاثة مؤتمرات حواريّة عالميّة، الأوّل إسلامي - إسلامي، والثاني مسيحي - مسيحي، والثالث إسلامي - مسيحي يخرج بتوصيات، يصار إلى العمل على وضعها موضع التنفيذ.
وتمّ التوصل في مرحلة من المراحل إلى توافق بين رئيس الجمهوريّة العماد ميشال سليمان، مع كلّ من الرئيس بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، يقضي بالانطلاق من مجلس الوزراء، وإقرار تصوّر لحياديّة لبنان يطرح على مجلس النواب تمهيداً لدرسه وإقراره، ثمّ المباشرة بتسويقه ديبلوماسيّاً، إنطلاقا من الجامعة العربيّة، إلى الأمم المتحدة، إلى عواصم الدول الخمس الكبرى، إلى مجلس الأمن الدولي، إلّا أنّ المستجدات تخطّت التمنيات، خصوصاً بعدما أثبتت الحكومة في غير مناسبة بأنّها أعجز من أن تتبنّى مشروعاً بهذا المستوى وتتحمّل مسؤولياتها الوطنيّة حياله، كون الخلافات العميقة بين مكوناتها محتدمة حول ملفات بديهيّة كالتعيينات الإداريّة وغيرها، فكيف لها أن تجمع على مشروع يتناول مستقبل لبنان؟ ثمّ حتى لو تمكّنت، فإنّها ستصطدم بمعارضة شرسة في المجلس النيابي، تنتظرها عند كل منعطف للنيل منها.
وتأتي الأحداث المتفاقمة في الداخل السوري، لتأخذ لبنان إلى متاهات غير محسوبة العواقب والنتائج السلبيّة، نتيجة عاملين: فشلُ اللبنانيين في فصل مسارهم عن المسار السوري، لينعم وطنهم بحدّ أدنى من الهدوء والاستقرار والازدهار، والبحبوحة الماليّة - الاقتصاديّة - الاجتماعيّة.
والثاني، فشلُ اللبنانيين في تنظيم خلافاتهم وتبايناتهم الداخليّة تحت سقف القانون والدستور، والمؤسسات إن على مستوى رئاسة الجمهوريّة، أو عن طريق مجلس الوزراء، أو من خلال مجلس النواب، وتبجّح البعض منهم في رهاناته على الخارج، بل الاستعداد لتوفير كامل مقوّمات الدعم له عند الضرورة، حتى ولو أدّى ذلك إلى انهيار سقف الوطن على الجميع.
وجاء الإعلان عن النأي بالنفس بمنزلة براءة ذمّة من سياسة ملتبسة أدّت إلى انهيارات قاتلة، انهيار على المستوى الاقتصادي إذ إنّ الصعوبات الناجمة عن الوضع المأزوم تكاد لا تحصى، من دون أن تحظى بالقدر الكافي من المعالجات.
وانهيار على المستوى الأمني حيث المشهد الطرابلسي ما بين باب التبّانة وبعل محسن، خير معبّر عن واقع الحال، فضلاً عن ظاهرة الأمن بالتراضي التي أكلت من هيبة الدولة ومن رصيد الحكومة، ووصمتها بالعجز، والضعف، وهذا ما فتح شهيّة العصابات المسلحة من كل حجم وصنف ولون إلى أن تمارس هواياتها بحريّة مطلقة، إن بقطع الطرق، أو بخطف الناس بهدف الابتزاز، أو بممارسة السلب والنهب والتطاول على حقوق المواطنين، أو "بتطوير عدّة الشغل" نحو الجريمة المنظمة.
إنّ التمادي في هذه المنزلقات أفرز واقعاً جديداً مختلفاً. كنّا نبحث عن مصير ومستقبل وطن، بتنا اليوم نبحث عن وطن، وهل يبقى لبنان ويستمر في ظلّ هذه الفوضى المنظمة المستفحلة التي فتحت الأبواب وسيعة أمام سيل من الأسئلة المصيريّة: أيّ تداعيات أخطر وأكبر سيفرزها الوضع السوري المتفجّر على الساحة اللبنانيّة؟ وهل يسلم هذا الوطن بكيانه، بسيادته، وبوحدة أبنائه إذا ما ذهبت سوريا نحو التقسيم أو الفدرلة؟ وقبل البحث في حياديّة لبنان وتحويله إلى وطن - مختبر لحوار الحضارات والثقافات، هل من مشروع دولي لحمايته، والحرص على مكوّناته وثوابته ودوره ورسالته، أم أنّه مدرج على لائحة الانتظار، ريثما يصار إلى النظر بأوضاعه، في ضوء ما سترسو عليه الأمور في سوريا، لا بل في الشرق الأوسط ككل؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك