لعلها من المفارقات النادرة ان يرسم "المجتمع المدني" في لبنان بصورته الرمزية والمعنوية مرة شارة النصر في مسألة اجتماعية وصحية واقتصادية كقانون مكافحة التدخين، وهو العاجز التاريخي عن شق طريقه الى رسم المصير السياسي لبلد كان يزهو في الماضي بكونه درة الانفتاح والحضارة.
مثير للاهتمام هذا الجدل الصاخب الذي اشعله قانون قبع في مجلس النواب مدة قياسية قبل ان يلتحق لبنان بالنادي العالمي لمكافحة التدخين. المغزى هنا هو في نجاح بات يحسب انجازا مع ان لبنان تخلف طويلا عن منظومة التشريع المتصل بمسائل كهذه تتصدر في الدول الراقية سلم الاولويات. لنقل انه نجاح نادر في تواطوء المجتمع المدني مع الطبقة السياسية، ولو عم الصراخ المتضررين الواسعي الانتشار اقتصاديا واجتماعيا. فهذا "المجتمع المدني" اضحى مصيره كمصير النخب المستقلة والعلمانية في المجتمع السياسي والطوائفي والمذهبي، الى حد الاندثار تماما. وكل معاركه وحملاته غالبا ما انتهت الى هزائم موصوفة ومفجعة كلما وضع نفسه على تماس مع الواقع السياسي والامني حتى الاجتماعي. وليس ثمة ادل على ذلك من فصول طويلة من الهزائم بدءا من فجر الطائف الى ايامنا هذه ان في المعارك الخاسرة حول قوانين الانتخاب او ملفات المخطوفين والمفقودين او الزواج المدني الاختياري او خفض سن الاقتراع الى 18 عاما او محاولات ادخال الثقافة البيئية الى اولويات الدولة والمجتمع، وسواها العشرات من المحاولات والمعارك المتراكمة في مختلف القطاعات والاتجاهات.
في مجمل هذا الخط البياني اخفق هذا " الكيان الرمزي " في لبنان عن فرض حضوره وتأثيره بل عجز عن انتزاع اعتراف القوى الفعلية المؤثرة به وحتى عن انتزاع اعتراف من يفترض انه ينطق باسم مصالحهم الحقيقية والحيوية ويعمل من اجل تطويرها وتحديثها والذهاب بها نحو بلد يليق ببعض قيمه الاصلية قبل ان تدهمه كارثة الانحطاط.
وتثبت تجربة المجتمع المدني في لبنان الطائف انها بالكاد وقفت على رجليها كظاهرة جميلة حضارية ونخبوية فقط، فيما تجاربها في العالم "المتمدن" الغربي خصوصا كفيلة بصنع السياسات الكبرى والتشريعات الحاسمة في توجيه مصائر المجتمعات. وبطبيعة الحال لا يتسع "انجاز" كقانون مكافحة التدخين في الاماكن العامة لنفخ وتضخيم يبدل واقع المجتمع المدني كقوة ضغط اجتماعية نجحت هذه المرة، في تمريرة ناجحة بفضل تواطوء ايجابي استجاب له مجتمع الطبقة السياسية على رغم تعارضها مع مصالح اقتصادية تعنيها مباشرة.
ولكنها علامة فارقة جيدة، في معزل تماما عن قصة القوانين ومهازلها في لبنان اليوم. واغرب ما واجه هذه الظاهرة افلاس وضحالة وهبوط بل وجاهلية قيل فيها ان بلدا يمزق القوانين ويدوسها لا يفترض به ان يمتنع عن التدخين!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك