ينطلق الدكتور الياس أبو عاصي من مبدأ أن لا بديل عن الطائف، بل يذهب إلى حدّ التأكيد أنّه لولا وجود اتّفاق الطائف لكان اقتضى إيجاد اتّفاق على شاكلته. أولويته تطبيق الدستور، وهذا التطبيق لا يريده انتقائياً، إنّما يعلن التزامه بكلّ مندرجاته شرط تطبيقه وفق الأولويات المحدّدة، أي السياديّة ومن ثمّ الإصلاحية، لأنّ من شروط الإصلاح وجود دولة سيّدة على أرضها، الأمر غير القائم بفعل سلاح "حزب الله".
هل ما زال الطائف يعبّر عن تطلّعات اللبنانيّين ويشكّل المخرج للخلاص الوطني؟
- في البداية يجب توضيح ماهيّة اتفاق الطائف ومبادئه الأساسية. فمقدّمة الدستور مثلا، لا يمكن تغيير حرف واحد فيها، إلّا في حال طرأ تغيير جذري في البلاد. فمن جهة، إنّ الظروف غير مهيّأة للسماح بأيّ تغيير، في حين أنّ الطائف لم يُطبّق أصلاً حتى يتمّ الحكم عليه. فجميعنا يعرف أنّ متعهّد اتفاق الطائف أي الدولة المحتلة آنذاك (سوريا)، كانت تطبّقه بما يتوافق مع مصالحها، فتكافئ كلّ من يتعاون معها ويقوم بفعل انبطاح أمامها، وبالمقابل تعاقب الآخرين، مهمّشة شرائح كبيرة من المسيحيّين ولاحقاً المسلمين ممّن كانوا ينادون بسيادة لبنان واستقلاله وقراره الحرّ.
الطائف يتكلّم عن المناصفة وعن بسط سلطة الدولة على كامل ترابها عبر أدواتها الذاتية، وهي جميعها مبادئ لا يمكن تغييرها. وعلى الرغم من أنّ لبنان استقلّ نسبيًّا حتى في السنوات الأخيرة، إلّا أنّ ذلك لا يعني أن لا شوائب ظهرت خلال هذه الفترة، وأبرزها تتعلق بالمهل التي حدّت من حركة رئيس الجمهورية، وهنا لا نتكلم عن الصلاحيات بل عن المهل التي تلزمه بنشر المراسيم في وقت محدّد. طبعاً لو لم يكن اتّفاق الطائف موجوداً نظراً إلى المعطيات المحلّية والإقليمية لكان اقتضى ابتكار اتّفاق يشبهه.
التحرّر من الذهنية القديمة
ماذا لو تمّ تقييد رئيس الحكومة والوزراء بالمهل على غرار رئيس الجمهورية؟
- يجب التحرّر من الذهنية القديمة التي تعتبر أنّ الحدّ من صلاحيات الجانب السنّي يعطي المسيحيّين حقّهم. المطلوب اليوم أن يُصار إلى تنظيمٍ لعمل المؤسّسات، فإذا كان التقييد بمهل يخدم هذا الهدف فأنا معه، ولكن شرط أن يشمل الجميع لصالح عمل المؤسّسات وليس انتقائيّا أو كيديّاً أو مبدأ الـ"6 - 6 مكرّر"، فمن الضروري التخلّص من هذه الذهنية وأن نضع نصب أعيننا هذه المؤسّسة لكي تذهب إلى الحد الأقصى في إنتاجيّتها ونتطلّع إلى ما ينقصها في هذا الإطار.
وبالتالي، فإنّه من البديهي أن يكون لكلّ وزير هامش مناورة معيّن، ولكن لا يجوز أن يكون ذلك على حساب رئيس الجمهورية، إذ إنّ هذه الخلفية (خلفية تقييد الرئيس) كانت تُعتبر نوعاً من تصفية حسابات. إقرار هذا المبدأ تمّ من خلال ذهنية معيّنة نأمل أن نكون قد انتهينا منها. إلّا أنّ السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل اللبنانيّون يملكون القدرة والاستعداد النفسي والإرادة للجلوس حول طاولة في ظلّ الاستقواء بالسلاح الذي يضرب مبدأ مساواة المواطنين؟
إذاً، لا بديل عن اتّفاق الطائف، حتى إنّه لو لم يكن موجوداً لكان اقتضى إيجاد اتّفاق على شاكلته للوصول الى هذه المرحلة الانتقالية التي وصلنا إليها اليوم، وهي مرحلة كلّ الأخطار.
"الثلث المعطّل"
هل يُعتبر اتّفاق الدوحة نقيض الطائف؟
- هناك تناقض لافت بين الاتّفاقين. فاتّفاق الدوحة كان اتّفاقَ "ضرورة"، وكلّنا نعلم ما صدر عن هذا الاتفاق الذي جاء لينقض مبادئ كثيرة على صعيد النظام البرلماني، إذ بات الخلاف كلّه على مسألة "الثلث المعطّل"، الذي كان الهدف منه ضرب مبدأ فصل السلطات وتعاونها وتوازنها.
وهل نظرة المسيحيّين إلى الطائف تبدّلت بين لحظة توقيعه واليوم؟
- بدأ المسيحيّون يدركون أهمية معنى كلمة "مناصفة" وعبارة "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه". كما بدؤوا يعون أكثر فأكثر أهمية تحييد لبنان عن الصراعات، وهذا كلّه نضعه في خانة اتّفاق الطائف الذي شدّد على العناوين الأساسية الآتية:
أوّلاً: بسط سلطة الدولة، وما يشكّل الضمانة الأساسية والوحيدة للمسيحيين بشكل خاص ولكلّ اللبنانيين، هو وجود دولة قوية وقادرة تلتفّ جميع الأطراف حولها.
ثانياً: الإصلاحات
ثالثا: تحرير لبنان. والجدير ذكره أنّ الطائف لم يأتِ على ذكر المقاومة في أيّ بند من بنوده، بل تطرّق إلى دور الجيش اللبناني وقوّات الطوارئ، كما ركّز على اتفاقية الهدنة عام 1949 وتنفيذ القرار 425. وبالتالي يُعتبر غباءً وقِصراً في النظر من قبل اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصا، إذا لم يكونوا متشبّثين به فضلا عن المطالبة بإعادة النظر في الأمور التي تقتضي ذلك.
دستور في قلب الدستور
ما هو تعليقك على دعوة السيد حسن نصرالله إلى مؤتمر تأسيسي جديد؟
- إنّ طرح السيد نصرالله غير مستغرب خصوصا أنّ حزب الله يتربّع على ترسانة سلاح ودويلة خاصّة به (تمتلك كلّ الوسائل التي يفترض أن تملكها الدولة) مترئسا العالم كله، وبالتالي فإنّه من الطبيعي أن يحاول الاستفادة من هذا الموقع للمفاوضة على أمور تناسب مصالحه. وبالتالي، فإنّ الطائف لن يعطيه دوراً إلّا بقدر ما يكون منخرطاً في الدولة.
وهنا أستطرد لأقول: اليوم أصبحت الصورة واضحة بالنسبة إلى ما هو مقصود من كلمة "الشعب" الواردة في ثلاثية "الشعب، الجيش والمقاومة"، فالمعنيّ هو بيت "آل المقداد" الذي يتمّ إلباسه اللباس الذي يناسب الحزب، على أن يتمكّن في الوقت عينه، من غسل يديه من أعمالهم ساعة يشاء. إذاً هذا هو الشعب. وفي طبيعة الحال نحن ضدّ هكذا أفعال، ما يجعلنا متمسّكين أكثر فأكثر بالدستور اللبناني. واليوم أصبح الكلام عن الطائف لزوم ما لا يلزم طالما أنّه دستور في قلب الدستور.
العقد الاجتماعي لا يتمّ موسمياً
هناك مقولة تدعو إلى تعديل الطائف ليتناسب مع حجم الطائفة الشيعية الذي تبدّل منذ لحظة التوقيع على الطائف؟
- لا يمكن لأي فريق أن ينظر إلى نفسه وأن يقوّي إمكانيّاته وأن تكون له تطلّعات وطموحات كبيرة إلا من خلال الدولة.
فاستناداً إلى النهج الذي تتّبعه الشيعيّة السياسيّة، فإنّ ذلك يشرّع لكل مجموعة التسلّح وفرض الأمر الواقع والتذرّع بفارق الحجم بين الأمس واليوم، وهذا لا يجوز. فهل كان المسيحيّون خلال فترة الطائف يحظون بحجم تمثيلي عادل؟ أم أنّ وضعهم كان شبيهاً بوضع الشيعة، ولكنّهم ارتضوا بالطائف كنوع من عقد اجتماعي جديد إذ إنّ التوصّل إلى عقد اجتماعي جديد ليس بالأمر المتاح في كلّ وقت. قد تضطر الدولة في مرحلة من المراحل إلى التوجّه إلى عقد سياسي (كتغيير النظام مثلاً من نظام مركزي إلى نظام لا مركزي) إلّا أنّ توقيع عقد اجتماعي يعالج مسألة تكوين الوطن بمقوّماته وثوابته، لا يحصل إلّا مرة واحدة، فلا يجوز الشروع في كلّ مرة لإنشاء عقد مماثل إذ إنّ ذلك يتطلّب تفكيك الدولة ومكوّناتها.
حصرية السّلاح
ما هو التوقيت السياسي الذي يجعل من تطبيق الطائف أمراً ممكناً؟
- عندما تكون للسّلاح ضوابط وعندما يوضع في تصرّف الدولة اللبنانية، أي أنّه عندما تصبح الدولة صاحبة حصرية السّلاح والقرارات المصيرية، فضلاً عن الاستقرار والإنماء، اللذين يعتبران مواضيع حيوية أيضاً، عندها فقط يجوز الكلام عن تطبيق الطائف.
الطائفية السياسية
هل تتوقّع إلغاء الطائفية في لبنان؟
- يجب التمييز بين الطائفية وبين الأديان. فالتعدّدية أو التنوع الطائفي يعتبر من أبرز سمات لبنان، والتي تلبّي مستلزمات الحياة المادية وحتى الحياة الروحية. فالطائفية كما تمارس اليوم أي من خلال تغليب مجموعة لبنانيّة على مجموعة أخرى، لها دوافع وأوّلها أن يُطبّق القانون وأن تكون هناك مساواة وعدالة.
فالطائفية هي مسار وحالة وليست قراراً يمكن تطبيقه بإرادة فوقيّة.
وفي الحديث عن الطائفية السياسية، فإنّه من الواضح أنّه بقدر ما نتقدّم على طريق المواطنة بقدر ما نبتعد عن الطائفية بمفهومها وبقدر ما تصبح للأديان قيمة. لأنّ الطائفية السياسية بمفهومها السلبي تُسيء إلى الأديان بالمفهوم الروحي للكلمة. ولهذا السبب أشدّد على أنّ الشرط الأساسي يتمثل في التقدّم نحو المواطنة ما يتطلّب دولة عادلة تطبّق القانون سواسية على المواطنين، فضلاً عن توزيع عادل للثروات الوطنية وللضرائب على جميع اللبنانيين.
هل تؤيّد تحرير المجلس النيابي من القيد الطائفي وتثبيته في مجلس الشيوخ؟
- أؤيّد اتّفاق الطائف بكل مندرجاته، ولكن ضمن أولويات معيّنة. إذ لا يمكن الكلام على الإصلاح قبل أن تستقيم الأمور، وأن تضع الدولة يدها على كل إمكاناتها، وأن تكون دولة بكل ما للكلمة من معنى.
هناك مَن يتّهم المسيحيين أنّهم يريدون تطبيق ما يناسبهم من الطائف وتجاهل البنود التي لا تناسبهم على غرار إلغاء الطائفية السياسية؟
- لا أوافق على هذه المقولة، إلّا أنّ عدم موافقتي مشروطة بقيام دولة يرتاح لها كل المواطنين، وعندها فقط يصار إلى الابتعاد التدريجي عن الطائفية السياسية، وأعود وأكرّر أنّ الطائفية السياسية لا تلغى لا بقرار فوقي ولا بضغوط.
السيادة اللبنانية
ماذا عن صلاحيات رئيس الجمهورية في الطائف؟
- صلاحيات الرئيس لا تحتاج إلى تحديث بل إلى تعديل. فحسب الطائف، الرئيس هو رأس الدولة ومؤتمن على الدستور، ويسهر على حسن سير مؤسسات الدولة. ولكن المطلوب هو أن يتمتّع بصلاحيات تخوّله أن يمارس مسؤوليته. والمطالبة باستعادة صلاحيات الرئيس في غير محلّها، لأنّه لم يكن يستعمل البعض من هذه الصلاحيات التي كانت محسوبة عليه من دون أن يلجأ إلى استعمالها أصلاً.
ماذا عن قانون الانتخاب؟
- أؤيد القانون الأكثري وفقاً للدوائر الصغرى. فقانون النسبية غير قابل للتطبيق اليوم في ظلّ غياب النظام الحزبي الذي من خلاله يتمّ التنافس على أساس برامج معدّة من قبل هذا النظام، فضلاً عن آلية الاقتراع الإلكتروني وغيرها من الأسباب. والقانون الذي كانت لجنة بكركي تُعدّه ينصّ على اعتماد دائرتين أو ثلاث دوائر انتخابية كحدّ أقصى وعلى نظام اقتراع أكثري.
إلى أيّ حدّ تعتبر أنّ سقوط النظام السوري يسهّل قيام الدولة وتطبيق الطائف؟
- لا شكّ في أنّ سقوط هذا النظام سيُحدث تحوّلاً على مستوى المنطقة، وقد عاناه لبنان طويلاً بفعل تدخلاته وأطماعه بهذا البلد، وبالتالي المطلوب من السلطة السورية المستقبلية في سوريا الاعتراف بسيادة لبنان واستقلاله والالتزام بعدم التدخل في شؤونه، والباقي يعود إلى إرادة اللبنانيين، فإذا كانت إرادة هذا الطرف أو ذاك مواصلة سياسة الاستقواء بالخارج على الداخل فنكون لم نتعلم شيئا، وهذا هو الأسوأ ولا يبشّر ببناء دولة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك