كتب ناصر زيدان في "الأنباء الكويتية":
قد تكون الهجرة الكثيفة التي يقدم عليها اللبنانيون هذه الفترة أخطر حلقات المرحلة الصعبة، والأرقام التي أوردها مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت تبعث على القلق، فجوازات السفر التي أصدرها الأمن العام منذ مطلع السنة حتى نهاية شهر آب 2021 بلغت 260 ألف جواز، بزيادة 82% عن ذات الفترة من العام 2020، بينما طوابير طالبي الحصول على هذه الجوازات أمام مراكز الأمن العام تتزايد، وقد تجاوز عدد الطلبات 8000 يوميا، بينما القدرة القصوى لإنتاج الدوائر المختصة لا تتجاوز 3000 جواز سفر يوميا، ومدير الأمن العام أعلن عن إجراء مناقصة جديدة لطباعة مليون جواز سفر جديد لتلبية الطلبات الكثيفة.
هاجر من جبل لبنان إبان الحرب العالمية الأولى عام 1914 أكثر من 330 ألف مواطن، وحصلت هجرة كثيفة أخرى خلال الحرب الأهلية بين العام 1975 والعام 1990 قدرت بـ 990 ألف شخص، وغالبية المهاجرين خلال هاتين المرحلتين كانوا من العائلات التي فقدت مورد رزقها وخافت على أمن وسلامة أولادها من الحروب.
المفارقة أن الهجرة غير المعروفة الأفق اليوم تشمل فئة الشباب على وجه التحديد، ولاسيما منهم المتخرجون في الجامعات، ويقدر مرصد الجامعة الأمريكية أن 77% من الشباب اللبناني يجهدون لمغادرة البلاد، وهي النسبة الكبرى في المنطقة العربية برمتها.
وهناك أشخاص من فئات النخبة المنتجة غادروا لبنان خلال الأشهر الماضية، منهم عدد كبير من أساتذة الجامعات (190 من الجامعة الأمريكية فقط) ومنهم الأطباء والمهندسون والمحامون والصحافيون ورجال الأعمال، وهؤلاء تدنت مداخيلهم المالية في لبنان الى الحدود الدنيا من جراء ارتفاع قيمة العملات الأجنبية مقابل الليرة، أو أن بعضهم فقد عمله بالكامل من جراء الانهيار الحاصل.
ينتمي المهاجرون الجدد إلى المناطق اللبنانية كافة، لكن الواضح أن الذين يملكون جنسيات أخرى إضافة الى جنسيتهم اللبنانية، كما الذين تسهل السفارات منحهم التأشيرات، هم الأكثر إقبالا على السفر، وللمصادفة فإن غالبية من هؤلاء ينتمون إلى الطوائف المسيحية، على اعتبار أنهم الأكثر حظوة من غيرهم في هذا السياق، وهو ما يهدد مستقبل الكيان اللبناني، لأنه سيساهم في زيادة الاختلال الديموغرافي. وللمصادفة ايضا، فإن الذين يصعب عليهم الحصول على التأشيرات للسفر هم من البيئة الحاضنة لحزب الله، لأن عقوبات دولية وعربية متعددة تطول الحزب من جراء دوره الأمني والسياسي داخل لبنان وخارجه. وهناك أصوات من بيئة حزب الله بدأت تتحدث عن استثمار هذا الاختلال الديموغرافي في خارطة تقاسم السلطة في لبنان. علما أن هذا التقاسم هو سبب رئيسي للبلاء، وإلغاء الطائفية السياسية هو الحل الواقعي المرتجى والذي يؤمن استقرار لبنان، بينما استبدال نفوذ طائفي أو مذهبي بنفوذ آخر من طوائف أو مذاهب أخرى يفاقم الأزمة أكثر فأكثر.
أسباب الهجرة المخيفة هذه المرة لا تقتصر على الاحتياجات المعيشية فقط، بل يقف وراء جزء منها حالة اليأس التي يعيشها الشباب من الانطباق الذي يحيط بالمستقبل.
التهويل السياسي المدعم بلغة تهديدية أمنية، والصادر عن بعض قوى الممانعة، او عن الذين يدورون بفلكهم، زادت من منسوب القنوط عند الشباب، وأعطت إشارات سلبية عن المستقبل. وتشاء الاقدار أن يكون الوسط السياسي اللبناني بموالاته ومعارضته و«حراكه المدني» في أسوأ حال، وتجارب كل من هذه الفئات كانت في منتهى الإخفاق في المرحلة الماضية، وكل منها يعاني من سوء إدارة وانقسام داخلي وارتباطات تقيد حراكها الوطني، باستثناء القليل منها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك