كتب السياسي اللبناني دافيد عيسى:
ماذا عساي ان أقول في ما نحن عليه وما وصلنا اليه؟
ترددت كثيراً في ان أكتب وأبوح بما يدور في ذهني، إذ لم يعد الكلام نافعاً، والأزمة الى الأسوأ ومزيد من الانهيار وقد دمرت المؤسسات والاقتصاد ومقومات العيش الكريم وبديهيات الحياة والحقوق...
لن أدخل في الازمة الوطنية الشاملة وتعقيداتها السياسية والطائفية ولا في الجدل العقيم الذي لا يوصل الى نتيجة ولا يستند الى منطق وواقع بقدر ما يتغذى من عصبيات وغرائز. ولكنني أجد نفسي معنياً بالتحدث عن الساحة المسيحية وما آلت اليه أوضاعها وأحوالها، وبأن يكون كلامي صريحاً ومباشراً من دون قفازات ومن دون مواربة، لأقول ان المسيحيين في لبنان يمرون بأصعب وأخطر أزمة واجهتهم في تاريخهم الحديث، أي منذ ان قامت دولة لبنان الكبير، وهذه الازمة هي من طبيعة وجودية كيانية بعدما بات وجودهم مهدداً وكذلك دورهم ومستقبلهم. وبالتالي يجب ان يكون التعاطي مع هذه الازمة في مستوى حجمها وخطورتها وأن يتحلى قادة الأحزاب المسيحية أولاً وقبل غيرهمبالوعي والشجاعة والقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة التي تفترض تحمل المسؤوليات والقيام بتضحيات وتنازلات. وهذا ما لم يحصل ولا نراه حتى اليوم مع الأسف.
المسيحيون كما سائر اللبنانيين، وجدوا أنفسهم فجأة في القعر وقد انقلبت حياتهم رأساً على عقب. تدمرت حياتهم وأعمالهم ومشاريعهم. وأكثر من ذلك تدمرت احلامهم وثقتهم بالمستقبل. ضاع جنى عمرهم وتعبهم وعادوا سنوات وعقوداً الى الوراء وشعروا وأدركوا ان عليهم ان يبدأوا من جديد من نقطة الصفر وما تحت الصفر، وأن يقولوا وداعاً لكل مظاهر الرفاهية والرخاء وان يعتادوا الفقر وشظف العيش مع انعدام أبسط مقومات العيش والحقوق الأساسية.
المسيحيون، كما سائر اللبنانيين، يتوقون الى الخروج من هذا النفق المظلم والى بناء دولة العدالة والمساواة والحداثة والتطور... دولة تحمي وحدتهم وتنوعهم وخصوصيات كل جماعة وطائفة... ومن الطبيعي ان تبدأ على أنقاض الدولة المتهالكة والقطاعات المدمرة عملية البحث عن حلول مستدامة وعن عقد سياسي اجتماعي جديد وناجح، وأن يتطور هذا البحث الى حوار وطني جامع في اقرب وقت.
وهنا تقع المسؤولية الأكبر في حفظ الوضع المسيحي وصيانته وإبقائه صلباً ومتماسكاً تقع على عاتق المسيحيين أنفسهم، وخصوصاً على عاتق قادة الطوائف والرأي والشخصيات المستقلة وتحديداً أكثر على عاتق قادة الأحزاب المسيحية الاربعة الذين يختصرون التمثيل السياسي والشعبي للمسيحيين في هذه المرحلة وحتى إشعار آخر، عنيت سمير جعجع وجبران باسيل وسليمان فرنجية وسامي الجميل.
قبل أيام تلقفت بارتياح الخبر الصادر عن بكركي والمتعلق بمبادرة البطريرك بشارة الراعي الى دعوة قادة الأحزاب المسيحية الى لقاء مصالحة ومصارحة تحت سقف بكركي للتشاور وتنسيق الموقف وتحديد سبل مواجهة الازمة الشاملة. وهذا ما كشفه النائب فريد هيكل الخازن ابن البيت السياسي الماروني العريق واحد حراس بكركي، مبشراً بإرساء الوضع المسيحي على أسس ومبادئ وخريطة طريق.
ولما كانت بكركي تتحمل مسؤولياتها وتقوم بأقصى ما لديها من طاقة وإمكانيات وكان لها منذ سنة المواقف المشهودة والمبادرات الطيبة والمساعي الحميدة وآخرها في اتجاه عين التينة والرئيس نبيه بري، يبقى ان على القيادات السياسية والحزبية ان تتعاون مع بكركي وتدعم مبادرتها لتصحيح المسار على الساحة المسيحية وجعلها جاهزة ومؤهلة لمواجهة كل أنواع الاستحقاقات والتحديات في المرحلة المقبلة.
لا يعقل ان يظل المسيحيون على هذه الحال من التشرذم والتشتت بعد كل ما أصابهم وما أصبحوا عليه، ولا يجوز للسياسيين ان يظلوا متمسكين بمصالحهم الخاصة وأنانيتهم وخلافاتهم. المطلوب من المسيحيين وبكل بساطة ان يفعلوا ما يفعله الأخرون وسبقوهم اليه وان يتمثلوا بالشيعة الذين نظموا أمورهم من ضمن ثنائية متناغمة ومتكاملة وأن يحذوا حذو السنة الذين حددوا مرجعيتهم ويلتقون في إطار "نادي رؤساء الحكومات" وتحت سقف دار الفتوى، وأن يستفيدوا من التجربة الدرزية وكيف انتهت الأمور الى الاتفاق على تنظيم أوضاع الطائفة وحمايتها وتحييدها عن الصراعات السياسية وكيف وضعت العادات الدرزية جانباً والخلافات التي تنعكس سلباً على وحدة الطائفة وقوتها.
لا يكفي ان يلبي قادة الأحزاب الاربعة نداء بكركي ويأتوا الى الصرح البطريركي من باب رفع العتب والمسؤولية... المهم والمطلوب ان يأتوا بروحية إيجابية ومسؤولة وإرادة الوصول الى اتفاق يطمئن ما تبقى من مسيحيين ويهدئ من روعهم. اتفاق يعترف بالتنوع السياسي والحزبي ويحترمه ويوفر كل الأجواء لمنافسة شريفة نظيفة ديمقراطية لا مكان للشارع والعنف والحقد فيها. اتفاق يكرس الوحدة في الأساسيات
والمبادئ الوطنية وفي كل ما يتصل بالمصلحة المسيحية العليا وبالاستحقاقات الآتية التي يجب ان تكون محطة ومدخلاً الى مزيد من القوة وليس الى مزيد من الضعف والتشرذم.
لهم نقول: تنافسوا في الانتخابات ما شئتم واستخدموا كل الوسائل السياسية والشعبية ما استطعتم الى ذلك سبيلاً... ولكن لا تزجوا القضية المسيحية في صراعاتكم ولا تستدرجوا المسيحيين الى الشارع والى أساليب لا تليق بهم وبتاريخهم ورسالتهم. حيدوا المسيحيين عن خلافاتكم ومشاريعكم الخاصة وكونوا في مستوى أزمتهم وهواجسهم ومخاوفهم. واعلموا ان ساعة الحقيقة قد دقت وان الواقعة وقعت وان المسيحيين استنفدوا طاقتهم وثقتهم وصبرهم وحتى قدرتهم على إعطائكم فرصة جديدة.
انتم أمام اختبار أخير وحاسم، فأحسنوا التصرف قبل فوات الأوان وإذ ذاك لا ينفع اللوم ولا الندم.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك