أكّد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أنّ "الاستقلال لا يتعايش مع حكم لا يؤمّن لشعبه الرفاهية"، مضيفاً: "حبّذا لو يؤمن المسؤولون أن وجود لبنان هو مشروع استقلال سيادي حيادي في هذا الشرق".
وأضاف، في عظة الأحد: "انهضوا لإخراج الشعب من ذلّه واشهدوا للعيش في كنف الدولة والتحرر من المشاريع الطائفية"، وقال: "الاستقلال يشكو من وجود مسؤولين وقادة غير استقلاليين".
وجاء في العظة:"لا تخافي، يا مريم، ها أنت تحملين وتلدين إبنًا، وتدعين اسمه يسوع" (لو 1: 30-31)
1. فيما تحتفل الكنيسة اليوم ببشارة الملاك جبرائيل لمريم، عذراء الناصرة المخطوبة ليوسف، تحتفل أيضًا بيوم الشبيبة العالميّ، استعدادًا للإحتفال مع قداسة البابا في ليشبونه عام 2023. وإنّا في هذه المناسبة نحيي ذكرى المرحوم المونسنيور توفيق بو هدير الملقّب "بأبونا الشبيبة" والذي كنّا بدأنا معه الإعداد للاحتفال بيوم الشبيبة العالمي هنا في الصرح البطريركي. فإنّا نذكره في هذه الذبيحة الإلهيّة، وتقيم الشبيبة بعد القداس حفل تكريم لذكراه.
2. "لا تخافي، يا مريم، ها أنت تحملين وتلدين إبنًا، وتدعين اسمه يسوع" (لو 1: 30-31). هذه الكلمات الإلهيّة التي مضمونها نهوضٌ من واقع الحال، ودعوة واضحة وانطلاق للقيام برسالة جديدة، تلتقي تمامًا مع الموضوع الذي اختاره قداسة البابا فرنسيس في رسالته ليوم الشبيبة العالميّ وهو: "انهض واشهد". وهما كلمتان مقتبستان من كلام الربّ لشاول-بولس، عندما ظهر له في طريق دمشق وهو متّجهٌ إليها لإضطهاد المسيحيّين، واسقطه أرضًا عن جواده بنورٍ إلهيّ، ثمّ قال له: "إنهض لأجعلك خادمًا وشاهدًا بما رأيتني وبما سوف تراني" (أعمال 26: 16).
3. "أرسل الملاك ... إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف" (لو 1: 26-27). هذا التحديد القانونيّ يعني أنّ يوسف ومريم زوجان شرعيّان. والخطبة، حسب الشريعة اليهوديّة، عقد زواج أبرم شرعًا، على أن تنتقل العروس إلى بيت عريسها لعيش الحياة الزوجيّة، بعد بضعة أيّام. قبل إنتقالها كان التدخّل الإلهيّ والواقع الجديد: نهوض ورسالة. وهكذا
كان الربّ يسوع معروفًا أنّه ابن يوسف ومريم، وتسجّل كذلك في الإحصاء المسكونيّ الذي أجراه أغسطوس قيصر (لو 2: 1). تبرز من هذا الواقع القانونيّ حقيقتان لاهوتيّتان وروحيّتان.
الأولى أنّ يسوع الإله، بميلاده في عائلة، قدّس العائلة ورفعها إلى رتبة سرّ، بحيث يكون الله الواحد والثالوث حاضرًا في كلّ زواج شرعيّ، فيقدّس الزوجين بنعمته ويعضدهما ويختمهما برباط دائم؛ ويجعل من العائلة كنيسة بيتيّة تنقل الإيمان، وتعلّم الصلاة، وتربّي على الفضائل الروحيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة، فتصبح على المستوى الاجتماعيّ الخليّة الأساسيّة للمجتمع، والمدرسة الطبيعيّة للقيم.
الثانية أنّ الله الذي يقود تاريخ الخلاص عبر تاريخ البشر، إنّما ينطلق من الواقع الحياتي العاديّ ويطوّره ويرفعه بالتعاون مع المؤمنين. وهذا ما نسمّيه بالدعوة في الكنيسة. يوسف ومريم زوجان شرعيّان لم يتساكنا بعد في إلفة الحياة الزوجيّة، دعاهما الله في حالة البتوليّة، لتكون مريم أمًّا عذراء بتولًا يولد منها القدّوس ابن الله بقوّة الروح القدس، وهي تتكرّس له ولتصميم الخلاص بكلّ واجب الأمومة؛ وليكون يوسف أبًا شرعيًّا بتولًا ليسوع بالتبنّي ويتكرّس له بكلّ حبّه وذاته وقواه في واجب الأبوّة.
4. مريم بجوابها: "أنا أمة الربّ فليكن لي حسب قولك" (لو 1: 38)، وافقت وأطاعت إرادة الله، بل تبنّتها بفعل إرادة واعٍ وحرّ. فتماهت إرادتها البشريّة مع الإرادة الإلهيّة. وأصبحت مريم مثالًا لكلّ مؤمن ومؤمنة يقبل إرادة الله جاعلًا إيّاها إرادته الشخصيّة. وأصبحت بالتالي مثالًا لكلّ مكرّس ومكرّسة، ولكلّ كاهن وأسقف.
5. "إنهض واشهد!" هذا هو موضوع رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة اليوم العالميّ للشبيبة. يكتب قداسته: "اليوم يقول الله مرّة أخرى، لكلّ واحد وواحدة منكم: "انهَضْ!". أرجو لكم من كلّ قلبي الاستعداد للأوقات الجديدة، ولصفحة جديدة في تاريخ البشريّة. لكن لا يمكن البدء من جديد من دونكم، أيّها الشّباب الأعزّاء. حتّى ننهض، يحتاج العالم إلى قوّتكم، وحماسكم، واندفاعكم.
ويضيف : "اهتداء بولس ليس رجوعًا إلى الوراء، ولكنّه انفتاح على آفاق جديدة تمامًا. في الواقع، واصل مسيرته نحو دمشق، وهو إنسانٌ مختلف عمّا كان قبلًا (راجع أعمال الرّسل 22، 10). يمكننا أن نغيّر أنفسنا ونُجدّدها في الحياة العاديّة، وأن نفعل الأمور التي نفعلها عادة، ولكن بقلب متجّدد. طلب يسوع صراحةً من بولس أن يواصل طريقه إلى
دمشق، ولكن الآن، تغيّر هدف رحلته ومعناها بشكل جذريّ. من الآن فصاعدًا، سيرى الواقع بعينين جديدتين. سابقًا كانت عَينَيْ الجلّاد المُضطَهِد، ولكن، من الآن فصاعدًا، هي عَينا التّلميذ الشّاهد. عمّده حنانيا في دمشق وقدّمه إلى الجماعة المسيحيّة. سيعمّق بولس خبرته الخاصّة في الصّمت والصّلاة، وهويّته الجديدة التي منحه إياها الرّبّ يسوع."
6. ويختم البابا فرنسيس رسالته بهذا النداء:
دعوة المسيح لبولس موجّهة اليوم إلى كلّ واحد وواحدة منكم أيّها الشّباب والشابات: انهَض! لا يمكنك البقاء على الأرض "تبكي حظَّك"، هناك رسالة تنتظرك! يمكنك أنت أيضًا أن تكون شاهدًا على الأعمال التي بدأ يسوع يحقّقها فيك. لذلك، أقول، باسم المسيح:
- انهَض واشهد لتجربتك مثل أعمى التقى النّور.
- انهَض واشهد للحبّ والاحترام الذي يمكن أن ينشأ في العلاقات الإنسانيّة.
- انهَض واشهد للحقيقة والعدالة الاجتماعيّة، وحقوق الإنسان.
- انهَض واشهد للنّظرة الجديدة التي تُريك الخليقة بعيون مليئة بالدّهشة.
- انهَض واشهد أنّ كلّ حياة أخفقت يمكن أن تُبنى من جديد.
- انهَض واشهد بفرح أنّ المسيح حَيّ! وانشُر رسالته، رسالة الحبّ والسلام.
7. عيد الإستقلال الثامن والسبعين غدًا يوجّه الدعوة إيّاها للشعب اللبنانيّ، وللمسؤولين السياسيّين، وللذين ما زال ولاؤهم لغير الوطن، وللذين يعرقلون سير المؤسّسات الدستوريّة، واستقلاليّة القضاء، وفصل السلطات، ويخرقون السيادة والوحدة الوطنيّة:
انهضوا واشهدوا بصون الإستقلال وتعزيزه.
انهضوا واشهدوا باخراج الشعب من عذابه وذلّه، وباعادته إلى سابق البحبوحة والفرح والعزّة.
انهضوا واشهدوا بالعيش في كنف الدولة ودستورها وميثاقها واستقلالها، والتحرّر من المشاريع الطائفيّة والمذهبيّة.
انهضوا واشهدوا لتلك الأيّام المجيدة حين اتّحد المسيحيّون والمسلمون وأعلنوا استقلال دولة لبنان بعد ثلاثة وعشرين سنة على تأسيسها.
انهضوا واشهدوا لفجر لبنان الذي كان أوّل دولة تتوحّد وتوحّد وتستقلّ وتحترم في الشرق.
8. إنّ الإستقلال يشكو اليوم من وجودِ لبنانيّين غيرِ مستقلّين. واللبنانيّون يشكون من وجودِ مسؤولين وقادةٍ وأحزابٍ غير استقلاليّين. لا يتعايش الاستقلالُ مع ولاء فئاتٍ من الشعب لوطن آخر، ولا مع ضعفِ الدولةِ أمام الخارجين عنها وعليها. لا يتعايشُ الاستقلالُ مع حكمٍ لا يوفِّرُ لشعبه الحياةَ الكريمةَ والرفاهَ والعملَ والعلمَ والعدالةَ والضماناتِ الصِحيّةَ والاجتماعيّة. لا يتعايش الاستقلالُ في وطنٍ تَحوّل ساحةَ صراعاتِ لجميعِ مشاكلِ الشرقِ الأوسط والعالم. لا يتعايشُ الاستقلالُ في مجتمعٍ زادت فيه الفروقاتُ الثقافيّةُ والحضاريّةُ وتَباعدَت أنماطُ الحياةِ فتركت انطباعًا أنَّ هذا المجتمعَ صار مجتمعاتٍ متنافِرة.
حبّذا لو يؤمن المسؤولون، واللبنانيّون عمومًا، في ذكرى الاستقلال، أن وجود لبنان هو أساسًا مشروعٌ استقلاليٌّ وسياديٌّ وحِياديٌّ في هذا الشرق. حبّذا لو يدركون أنَّ ضعفَ وحدةِ لبنان ناتجٌ عن ضعفِ استقلالِه. وبالتالي أن بداية الإنقاذ تبدأ باستعادةِ استقلالِ لبنان وترسيخِ حيادِه الإيجابي الناشط في كلّ ما يختصّ بالسلام وحقوق الإنسان والحوار السياسيّ والثقافيّ والدينيّ والاستقرار في بيئته العربيّة.
9. إذا كانت جميعُ القوى السياسيّةُ قَبِلتْ بسياسةِ عدم الإنحياز والنأيِ بالنفسِ الواردتين في البياناتِ الوزاريّةِ منذ الاستقلال إلى اليوم، فلماذا لا تَلتزمُ بها وتطبِّقُها؟ وإذا كانت هذه القوى آمَنَت جِدّيًا بسياسةِ عدم الإنحياز والنأي بالنفسِ، فلماذا لا تَعتمد نظامَ الحِيادِ الإيجابي لضمانِ استقلالِ لبنان واستقرارِه في إطارٍ دستوريٍّ ثابتٍ. في هذا السياقِ نَنتظرُ أن تبادرَ الشرعيّةُ اللبنانيّةُ إلى اعتمادِه وطرحِه رسميّا على المرجعيّاتٍ الدوليِّة وبخاصّةٍ على الأممِ المتّحدةِ ليكون مضمونًا بقرارٍ دوليٍّ يلُزم جميعَ الدولِ باحترامِ سيادةِ لبنان، وهذا الأخير باحترام سيادة غيره من الدول. هكذا، تعيد الدولةٌ للاستقلالِ معناه.
10. نصلّي كي يحقّق له الأمنيات وينهض الجميع إلى حياة جديدة، يشهدون فيها لكلّ ما هو حقّ وخير وجمال. فمن الله مصدرها، له المجد والتسبيح الآن وإلى الأبد، آمين.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك