ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في وسط بيروت، وألقى عظة قال فيها: "تعيد كنيستنا المقدسة اليوم لدخول والدة الإله الفائقة القداسة مريم إلى الهيكل. فبعد أن كان والداها يواكيم وحنة عاقرين، منحهما الرب ثمرة البطن، مريم. أخذ الوالدان إبنتهما إلى الهيكل لتقيم فيه وفاء لنذر كانا قد قطعاه على نفسيهما. كانت مريم آنذاك في الثالثة، فدعا يواكيم بعض العذارى العبرانيات ليواكبنها بالمصابيح، وقد تقدمتهن مريم بلا خوف أو تردد، لأن الرب الإله كان قد اصطفاها منذ مولدها وجعلها تميل إلى الفضائل والسماويات أكثر من أي إنسان آخر على الأرض. ما إن وصلت مريم إلى باحة الهيكل، حيث كان رئيس الكهنة زخريا والشيوخ بانتظارها، حتى ألقت بنفسها بين ذراعيه فباركها قائلا: الرب مجدك في كل جيل، وها إنه فيك يكشف الله الخلاص الذي أعده لشعبه. بعد ذلك، بخلاف كل الأعراف، أدخل رئيس الكهنة الطفلة مريم إلى قدس الأقداس، حيث لا يسمح إلا لرئيس الكهنة بالدخول مرة واحدة في السنة فقط، للتكفير عن خطاياه وخطايا الشعب. أجلس زخريا مريم على درجة المذبح الثالثة، فحلت عليها نعمة العلي، فانتصبت وبدأت ترقص فرحا، كل الذين عاينوا المشهد اندهشوا وعظموا الله على ما هو مزمع أن يتممه في هذه الطفلة".
أضاف: "عاد يواكيم وحنة إلى بيتهما، وبقيت مريم في قدس الأقداس، حيث أمضت تسع سنوات، ولم تحيي إلا لله وحده، تتأمل جماله. بالصلاة الدائمة واليقظة، أنجزت مريم نقاوة القلب وصارت مرآة صافية تعكس جماله. لما تنقى ذهنها بالصلاة تمكنت من إدراك المعنى العميق لأسرار الكتاب المقدس. فهمت أن كل الزمان الذي مضى كان لازما ليهيء الله لنفسه أما في وسط الإنسانية المتمردة. فهمت من رموز العهد القديم أنها مظلة كلمة الله، وتابوت العهد الجديد، وإناء المن السماوي، وعصا هارون المفرعة، ولوح شريعة النعمة. هي السلم التي تصل السماء بالأرض، الأمر الذي تمثله حنية الهيكل في كنائسنا الأرثوذكسية، حيث نرسم أيقونة والدة الإله الأرحب من السماوات. هي عمود الغمام الذي أعلن مجد الله، والسحابة الخفيفة التي تكلم عليها إشعيا النبي. إنها الجبل غير المقتطع منه الذي عاينه دانيال النبي، والباب المغلق الذي عبر منه الإله نحو البشر على حسب ما قال حزقيال النبي. بعد بلوغها الثانية عشرة من العمر، خرجت مريم العذراء من قدس الأقداس، فتسلمها يوسف العفيف إلى أن بدأت مسيرة الخلاص بولادتها المخلص عمانوئيل".
وتابع: "الأسبوع الماضي، إنطلق الصوم الميلادي الأربعيني، وكل هذه الفترة نحتفل بأعياد الأنبياء الذين هيأوا البشرية لاستقبال الإله متجسدا. ليس غريبا أن يحل عيد دخول العذراء مريم إلى الهيكل في هذه الفترة أيضا، لأن النبوءات تحققت من خلالها، فكانت، كما نرتل اليوم: أسمى رفعة من جميع المخلوقات. رتلنا في صلاة السحر: إن والدة الإله بالحقيقة، التي هي وعد مقدس وثمر نفيس جدا، قد ظهرت للعالم أنها أعلى سموا من جميع المخلوقات، هذا السمو لم يأت من العدم، لكنه بدأ من القداسة التي أظهرها والدا العذراء قبل الحبل بها، وأثناءه، وبعد ولادتها. يقول القديس بورفيريوس الرائي: إن نشأة الأطفال تبدأ من لحظة الحبل بهم، لذلك، على الأم أن تصلي كثيرا خلال فترة الحمل، وتقرأ المزامير، وترتل الطروباريات (ترانيم كنسية)، وتعيش حياة مقدسة، فيصبح جنينها أكثر تقديسا، ويكتسب منذ البداية أساسات مقدسة. يواكيم وحنة سلما الله أمر عقرهما، وصليا كثيرا، وقدما جنينهما لله، حتى قبل أن يعرفا بوجوده. آباء وأمهات اليوم، عندما يعرفون بموضوع الحمل، قد يسارع بعضهم إلى إجهاض الجنين، متناسين أن الإجهاض قتل وإجرام. البعض الآخر يتضايق بسبب ضيق المعيشة، وبعضهم يبدأ بالتحضيرات الدنيوية، وقليلون يشكرون الله على نعمته ويربون الجنين منذ اللحظة الأولى على معرفة الله وتسبيحه. بعد الولادة ونشأة الأولاد، يتعجب معظم الأهل من سيرة أولادهم إن كانت سيئة، ويقولون: لقد أمنا له كل ما يمكن أن يحتاجه، فلماذا أصبح هكذا؟. نعم، أمنوا له الأرضيات، لكنهم لم يربوه على النظر إلى السماويات، واشتهاء ملكوت الله. الأمر المهم الذي قام به يواكيم وحنة أنهما لم يعتبرا إبنتهما ملكا لهما، بل نذراها للرب، ثم قدماها له. يقول أحد الآباء المعاصرين: إن خطيئة الوالدين المميتة هي أن يحسبا ولدهما ملكا لهما ومخلوقا يخصهما، فيعاملانه على هذا الأساس ويستغلانه، على الوالدين أن يحبا الولد كمخلوق مستقل، كإنسان مميز، كإنسان ينتمي إلى الله أولا. الأهل هم معاونو الله، وهم مؤتمنون على أولادهم وعليهم واجب نحوهم أكثر مما عليهم حقوق. وبصفتهم معاوني الله، تقع عليهم مسؤولية تربية أولادهم كما يريد الله".
وأردف: "تعلمنا والدة الإله الطاعة الكاملة لله وللوالدين، وأن الإنسان يتقدس بهذه الطاعة، ويصبح مسكنا رحبا لكلمة الله، ومنارة مشعة للجميع. مريم التي تربت على طاعة الوالدين، وشاهدت والديها طائعين لله، أطاعت بدورها عندما جاءها ملاك الرب ليخبرها ببشرى الحبل بابن الله. أطاعت بحريتها الشخصية، مع علمها بأن المجتمع حولها ستكون له آراء سيئة بشأنها. لكن الله، الذي عاشت طفولتها إلى جانبه، علمها كيف تختار الخيارات الصحيحة، وجعلها تؤمن بأنه سيكون دوما إلى جانبها، وهكذا أصبحت أسمى رفعة من جميع المخلوقات. لقد قال لنا المسيح: أنتم في العالم ولكن لستم من العالم. والعالم لا يقبل جميع من يلتصق بالله ويهمل العالم ومغرياته. العالم يسيء بالقول والفعل والفكر تجاه العاملين بكلمة الله، مثلما حاول تشويه صورة والدة الإله. لكن الذي يتربى على محبة الله منذ طفولته، لن يأبه لو وقف العالم بأسره ضده، لأنه يقوى بالله كما يقول الرسول بولس: أستطيع كل شيء بالمسيح الذي يقويني. (في 4: 13)."
وقال عودة: "إن والدة الإله مثال لنا في حرية الرأي، الأمر الذي نفتقده في بلدنا الحبيب لأن إنسان بلدي أصبح يائسا مستضعفا يعاني الفقر والجوع والمرض ويستجدي الدواء والعلم، ولم يعد منشغلا بحريته وكرامته وعنفوانه. أما إذا كان شجاعا وذا رأيٍ حر، والحرية عطية من الله، فيقمع ويعنف ويتنمر عليه، في زمن ساد فيه الفساد والحقد والقوة والبطش والإملاء والإقصاء وكل أنواع الظلم الإجتماعي، تساعدها وسائل التواصل السريعة. رأي شعبنا لم يعد مسموعا عند من أولاهم الشعب ثقته، ومنحهم شرف تمثيله، وقد أصبح صوته مستهانا به، يشرى ويباع أحيانا، لأن المتحكمين بالشعب قاموا بتجويعه لتطويعه كما يشاؤون، وآخر مسمار غرز في نعش المواطن هو رفع أسعار الأدوية، فأصبح مستحيلا على الفقير الذي يصيبه مرض أن يبقى على قيد الحياة، وإذا شاء الشفاء، أجبر على قرع أبواب المتحكمين برقاب الشعب، فيعطى مقابل تقييد حريته وكتم صوته في الإستحقاق الإنتخابي. يقول الرب على لسان النبي عاموس: الويل للذين يمرغون رؤوس المساكين في التراب ويصدون سبيل البائسين (عا 2: 7) ولا يسمعون صوت الصارخين في ضيقهم، أي إن أولئك المتحكمين برقاب الشعب، المسيطرين على أبناء الله، الذين خلقهم ربهم أحرارا، ستكون عاقبتهم وخيمة، لأن الرب القوي، الجبار، سيتصدى لهم، ويحل عدالته فيهم".
وختم: "عيد دخول والدة الإله إلى الهيكل هو اكتمال التهيئة لمجيء المخلص، وهو خطوة نحو تحقيق الخلاص الذي طالما انتظره أبرار العهد القديم، الذين عاشوا البر والجهاد الروحي والتضحية والطاعة لوصايا الله، لكنهم لم ينالوا المواعيد، بل من بعيد نظروها وصدقوها وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض كما يقول بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين (11: 13). جميعنا نزلاء على الأرض ولحياتنا عليها نهاية قبل المثول أمام وجه العلي. وهذه الحياة هي فرصتنا لتنقية الذات والتخلص من كل الشوائب والخطايا وإعداد القلب للقاء المرتقب. المشكلة أن بعض الناس يظنون أنفسهم خالدين ويتصرفون كأن حياتهم لا موت فيها، يعملون من أجل مصالحهم وغاياتهم، يعادون من يخالفهم، يتحكمون بالضعفاء، يجمعون الثروات على حساب الفقير والضعيف، ويعيثون في الأرض خرابا مزهوين بقوتهم وسطوتهم، متناسين أن القوة والعدالة والدينونة لله وحده، غير مدركين أن لا شيء دائما وأن الأحوال تتغير والأيام تتبدل و"أن كثيرين أولون يكونون آخرين وآخرون أولين) كما قال الرب يسوع لتلاميذه (متى 19: 30). ولذلك، لنتعلم القداسة من والدة الإله، ولنجتهد في طاعة الله، والسير بهدي كلامه، حتى ولو بدا تطبيق وصاياه صعبا في مجتمعنا الذي ينخره سوس الفساد والحقد والمصلحة. كونوا مع الله، يكون معكم، آمين".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك