كتبت هيام القصيفي في "الاخبار":
في كل مرة تتضافر الأسباب الاقتصادية والأمنية والتدخلات الخارجية تتوتر أوضاع طرابلس. المدينة التي تعيش «هدوءاً» اليوم، تتقلّب فوق نار كامنة تحت الرماد.
رغم أن الأزمة الاقتصادية الحادّة تضرب لبنان كله، إلا أن تداعياتها الأكثر حدّة، بالمعنى السياسي والأمني والاجتماعي، تنعكس على طرابلس، الحائزة على «لقب» أكثر المدن فقراً على ساحل المتوسط.
تتفلّت الأوضاع في عاصمة الشمال مع كل تأزّم سياسي لأسباب موضوعية مدعومة بشحن خارجي. المدينة التي يحبها عارفوها، ويرون فيها غير ما يراه الآخرون، تعيش منذ سنوات على خط الزلازل المحلية والإقليمية. واليوم، مع حال الانهيار الشامل، تعود بين حين وآخر محط اهتمام سياسي وإعلامي، لأيام أو ساعات، قبل أن تنحسر الأضواء عنها لترجع إلى عزلتها. خلعت «عروس الثورة» عنها رداء التشدد، وأحلام بعض أبنائها بإمارة إسلامية، لتعطي عن صفاء شعبي واجتماعي، لكنه لا يلبث أن يتكسر عند أول احتكاك اجتماعي، وينقلب بفعل السلاح المنتشر فيها بكثرة إلى حرب مصغرة.
حالياً، تمر المدينة، مرة أخرى، بمرحلة دقيقة وخطرة تجعلها مرشحة لأن تكون مجدداً في عين العاصفة. ومشكلتها المزمنة تكمن في التفاوت الاجتماعي بين بعض زعمائها وأبنائها الذين يزدادون فقراً كل يوم، وفي أن بعض سياسييها، كما بعض الأجهزة الأمنية، يستخدمونها ساحة لتصفية الحسابات، وفي أن دولاً خارجية تتصارع على أرضها.
ورغم «هدوء الرصاص» الذي تعيشه المدينة، إلا أنها تتقلّب فوق نار تحت الرماد، وتعتمل فيها مجموعة من التناقضات تتبدّى في ظواهر عدة ستكون من الآن وصاعداً تحت المعاينة، منها:
أولاً، ما يحصل من تدهور اقتصادي واجتماعي وتفش للسرقات وازدياد معدل الانتهاكات الأمنية. وهذا، بالتأكيد، جزء من المشهد السياسي العام الذي لا يجد متنفساً له سوى في بعض عمليات التوتير الأمني. ولا تخرج عاصمة الشمال عن هذا السياق. ربما أصبحت صور أبناء المدينة والجوار الذين يخوضون البحر هرباً من الذل اليومي روتينية بالنسبة إلى بعض سياسيي المدينة، إلا أن تفاقم حالة العوز بصورة غير مسبوقة بات يشكّل خطراً حقيقياً خشية استغلاله واستخدامه أمنياً. وإذا كانت التنظيمات الإسلامية استغلت الفقر سابقاً لترسيخ نفوذها، فكيف هي الحال اليوم مع ازدياد معدلات الفقر في أحياء المدينة ومتفرعاتها التي تتردى حالها يوماً بعد آخر.
وفي هذا السياق، تسجّل المعلومات الأمنية عودة حالات التشدّد إلى المدينة. وهي، وإن كانت تحت الرصد الأمني لدى أجهزة المعلومات في معظم الأجهزة الأمنية، إلا أنها تنطوي على مؤشرات خطرة لجهة تدني نسبة أعمار الذين يلتحقون بمجموعات متشددة (بما في ذلك من هم تحت السن القانونية)، وجرأة هؤلاء في مواجهة القوى الأمنية والظهور العلني (خصوصاً لدى من لهم أقرباء في السجون)، وتمتعهم بخبرات عالية، إذ إن بعضهم متفوق علمياً في مجالات محددة، ويمتلكون مهارات عالية في استخدام التكنولوجيا، وهو ما لم يكن يتوفّر للجيل الذي سبقهم في العمل. وهذه المجموعات قابلة لأن تتحول بين يوم وآخر عنصراً خطراً مع تفشي الفقر وغياب المساعدات، في ظل خطر آخر لا يقل أهمية، يتجلى في تحلل الأمن الاستباقي - ولا سيما المعلوماتي - وتساهل بعض الأجهزة الأمنية في ظل تردي أوضاعها المعلوماتية التي تعاني من الترهل وضعف الإمكانات، ما يستفيد منه العابثون بأمن المدينة. علماً أن طرابلس كانت تشكل قاعدة لكل الأجهزة الأمنية وبرزت أسماء قادة أمنيين فيها بنوا قواعد عمل أساسية، قبل أن ينحسر دور بعضهم، لا سيما المرتبطون منهم بتيارات سياسية.
ثانياً، تنقسم الحالات الاجتماعية - السياسية بين خطين، أحدهما ينحو إلى التشدد، وآخر يتحوّل في المناسبات السياسية نموذجاً للتزخيم الميداني. تجمع هؤلاء ولاءات متفرقة، من تيار المستقبل إلى محركي وناشطي ثورة 17 تشرين من طرابلس إلى بيروت وجل الديب، إلى مناهضي حزب الله الذين يرون أنه رسّخ وجوداً فاعلاً في المدينة للمرة الأولى، إلى مؤيدي «المعارضة»، من شخصيات سياسية وقوى حزبية بعضها لا وجود تاريخياً له في المدينة كالقوات اللبنانية. تجتمع كل ولاءات هذه المجموعات تحت سقف غير طائفي ولا متشدد، وبما أنها أصبحت متنوعة الانتماءات، فإنها قد تكون أكثر عرضة للتمويل الخارجي، لا سيما أن أكثر من طرف إقليمي يجد فيها حاجة ليعزز حضوراً أساسياً في المدينة السنية بعد انحسار الدور السعودي، أو لدعم المجموعات المناوئة لحزب الله تحديداً، أياً كانت مسمياتها السياسية. هذه الأدوار السياسية المتشابكة مرشحة للتفاعل أكثر فأكثر مع اقتراب الانتخابات النيابية، وسيكون جمهورها الواسع، كما يتبيّن تدريجياً، أداة أساسية في تحريك الشارع السياسي الطرابلسي.
ثالثاً، لا يمكن، في لبنان، فصل الأمن عن السياسة. من هنا فإن المرحلة الفاصلة عن الانتخابات النيابية ستكون محكّاً لكل من يريد المس بالأمن في طرابلس وغيرها. لكن طرابلس تحمل خصوصية، تختلف عن غيرها من المناطق التي تشكل قاعدة وجود سني فاعل، كقرى وبلدات البقاع الغربي والأوسط أو حتى بيروت وصيدا. لذا يمكن للمال أن يفعل فعله في الاتجاهات المتناقضة، سواء الإسلامية منها أو التيارات المعتدلة التي تشكل وجه المدينة الحقيقي، بالتحالف مع قوى سياسية من خارج المدينة. لكن المخاوف من صعود تيارات متشددة، ومن حضور أكثر فاعلية لقوى 8 آذار وحزب الله، بدأ يترك تأثيرات على كل الجو الشمالي والطرابلسي. وقد يكون أكثر الذين يعاينون ما يحصل، تيار المستقبل والشخصيات الجدية منه، من انعكاس كل المؤشرات التي تتفاقم على التيار وعلى الخط السني المعتدل. وهنا يأتي الكلام عن انكفاء الرئيس سعد الحريري وتأثيره، ما يفترض أن يتحسب له حزب الله والرئيس نبيه بري الذي يدرك مدى خطورة الدفع بالحريري إلى خارج الساحة السياسية، وصعود تيارات سياسية مناوئة للحزب تحديداً تثير إشكالات في الوسط السني.
كل هذه العوامل تعيد طرابلس إلى دائرة الضوء، مضافة إليها عودة الوعود السياسية والكلام عن قانون العفو واستخدامه أداة في مرحلة ما قبل الانتخابات، خصوصاً بعد حادثتي خلدة والطيونة. وهذه مؤشرات ستكون أكثر فأكثر مدعاة توترات قد تكون المدينة ساحتها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك