كتبت مارلين الحاج حداد:
لم تفلح القدرة "العجيبة" التي أظهرها اللبنانيون على التكيّف والميل إلى العيش المشترك في ما بينهم على اختلاف مذاهبهم، في دحر موروث الطائفيّة من النّفوس والعقول.
ثمّة عوامل تاريخيَّة وسياسيّة عدّة، أفضت إلى هذه "الفرادة" في التناقض.
فقد أخفق لبنان منذ نشأته، في تحقيق التوافق السياسيّ بين المسلمين والمسيحيّين من أبنائه، ولاحقاً، بين أبناء الطّائفة الواحدة والمذهب الواحد. فبين "الخصوصيّةِ اللبنانيّة" التي أرادها المسيحيّون آنذاك للتّعريف بأنفسهم، وتمسّك المسلمين الشّديد بالعروبة (وذلك للربط بين الإسلام والعروبة)، تولّد الصّدع العميق، فتجلّى حروباً أهليّة ومعارك طائفية وانقسامات حادّة حول قضايا عربيّة ودوليّة كبيرة، جعلت من السّاحة اللّبنانية اليوم حلبة صراع بين دولٍ، اختارت مندوبيها اللبنانيين، من ساسةٍ وأحزابٍ، وطامحين إلى كلّ شيء، إلا بناء وطن.
هؤلاء جميعهم ينادون بلبننة البلد، ونبذ الطائفيّة، والعيش المشترك.
الشّعبُ كذلك. ولكن…
وعيٌ تامّ بالهويّة الوطنيّة المشتركة، يقابله ذاك الشّعور بالاختلاف حول الهويّة القوميّة والثّقافيّة. لقد أذاب تعدّد الإنتماءات والولاءات الصّيغة اللّبنانية. والتعدّدية الحضاريّة ضربها اتّساع الفوارق في أنماط الحياة.
ثقافاتٌ في ثقافة. قوميّاتٌ في قوميّة. دولٌ في دولة. مجتمعاتٌ في مجتمع.
أساليب عيشٍ وتقاليد كثيرة ومتنوّعة، ومفاهيمٌ مختلفة حول المفاهيم ذاتها. تركيبةٌ معقّدة لمن يعرفها. وربّما، لطيفةٌ لمن يفهمها.
فرادةٌ في التناقض، حتى أصبح لبنان الكيان، أقرب إلى "فكرة" قابلة للنّقاش بشكلٍ يوميّ، أكثر منه إلى دولة. فكرة تحتاج إلى ترميم مع كل إشراقة شمس.
من المهمّ أن نعي اليوم أكثر من أي وقت مضى، أننا نعيش في بلدٍ عجيب، حيث لا دولة واحدة. ولا شعب واحد. ولا رأس يحكم، بل رؤوس كثيرة تحكم وتتحكّم. ولا سيادة واحدة، بل سيادات، فتتعدّد أطراف صنع القرار.
من المهمّ أن نعي، أننا كنّا وسنبقى مشروع دولة.
في نظام لبنان، لا يفيد إسقاط شعارات عظيمة وأفكار وتصوّرات وهميّة، على واقعٍ سيّء. واقعٌ يحكمه خوف الأقلّيات على الوجود والمصير، وشمّاعة الطّائفيّة المقيتة ولّادة الفساد والجمود.
نعم. فقط في لبنان يُستولَد الجمود. حيث لا سبيل لثورة تتعدّى كونها فَورة.
فقط في لبنان، يصطدم المقتنعون في إمكانيّة التّغيير، بحائط "احتوائهم" من قبل النّظام نفسه، ومن ثمّ "احتضان" أفكارهم وأحلامهم، تمهيداً لِسحقها.
يدركون لاحقاً أنّ حلمهم كان مجرّد "نزوة"، وما نراه اليوم من إعادة تموضع سياسيّ وطائفيّ لعددٍ منهم، خير دليل على ذلك.
لبنان هو النّظام في حدّ ذاته. أبعد ما يكون عن التّغيير الجذريّ، وأقرب إلى "رتوش" محتمل، على ألّا يمسّ الجوهر، والتركيبة المنتجة بطبيعتها للأزمات والعقبات، لا بل، تتغذّى عليها.
هو فكرةٌ علينا التّعايش معها.
ينبغي معرفة معناه وحقيقته.
أن نتفهّم هواجس بعضنا، كي لا يصبح حلم لبنان الذي اختزنته ذاكرتنا وعانقه وجداننا، كابوساً.
ويبقى السؤال: متى يبلغ اللبناني الحلم؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك