عاد فريق 14 آذار إلى تكرار المكرر برفضه دعوة لجنة نيابية للاجتماع من قبل مقررها، لكن هذا التكرار، حتى لو تجاوز المليون مرة، لن يجعل لهذا الرفض أي مسوغ قانوني، لأنه من حيث المبدأ اعتمد الدستور قاعدة «حرَّم» فيها حصول فراغ في أي هيئة على تماس مباشر بمسار عملية التشريع، إلا إذا كان ثمة نص صريح يخرق هذا المبدأ كما في المادة 59 ـ دستور التي أجازت لرئيس الجمهورية تأجيل اجتماعات المجلس لمدة شهر.
حتى ان المشترع أخضع استحقاقات دستورية كبرى لمبدأ عدم جواز حصول فراغ في «المرفق العام» كما في المادة 73 ـ دستور التي أجازت للمجلس ان يجتمع من دون دعوة رئيسه إذا لم يدعو رئيس المجلس في حالة محددة إلى انعقاد الجلسة، والمادة 74 ـ دستور ألزمت المجلس بالانعقاد بحكم القانون، ومن دون دعوته، إذا شغرت سدة الرئاسة أثناء استمرار الولاية وهكذا دواليك.
تبعاً لذلك، فإن اللجنة النيابية، وبما أنها هيئة يدخل دورها في صلب عملية التشريع، حتى أنها أسميت «مطبخ المشاريع»، فلا بد أن تخضع للقاعدة التي اعتمدت في الدستورـ وهي تحريم حصول تفريغ لدورها. فكيف يمكن مقاربة رفض دعوة اللجنة من مقررها بعد توافر حالة رفض رئيس اللجنة لتوجيه الدعوة؟
صحيح انه لا ذكر للجان في النصوص الدستورية، ولكن النظام الداخلي للمجلس وُضع بتفويض من الدستور، فالمادة 43 من الدستور نصت على ان «للمجلس ان يضع نظامه الداخلي». واستناداً إلى هذه الوكالة فإن أحكام النظام الداخلي ترتقي إلى مصاف الأحكام الدستورية، وشرط ذلك أن لا تتعارض مع أحكام الدستور. ولهذا فإن القواعد والمبادئ الدستورية العامة تسري على أحكام النظام الداخلي ومنها المادة 27 منه التي تنص على الآتي: « ويقوم مقرر اللجنة بتوجيه الدعوة عند تعذر قيام الرئيس بمهامه وذلك بتكليف من هذا الأخير أو من رئيس المجلس».
أما رد رئيس لجنة الإدارة والعدل روبير غانم بأنه حي يرزق وموجود في البلد لكنه لا يريد الدعوة لاجتماع اللجنة التزاماً منه بموقف «قوى 14 آذار»، فهو بحسب أوساط تشريعية ذريعة «أقبح من ذنب»، لأسباب «كثيرة ونرى بالتأكيد ان الرئيس غانم يدرك ذلك جيداً جداً قبل غيره، ونُقسِم على ذلك. فالمؤسسات والهيئات المشابهة لها ليست ملكاً لأحد، فلها أحكامها».
فوفق المبدأ الدستوري يجب الأخذ بما جاء في المادتين 73 و74 ـ دستور، أما من حيث نص المادة 27 من النظام الداخلي المستقل عن كل ما عداه من مبادئ وأحكام دستورية، والذي اشترط للدعوة من المقرر ان يكون قد كلف بذلك من رئيس اللجنة أو من رئيس المجلس، فالسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا أقحم المشترع رئاسة المجلس بمثل هذا التكليف؟ والجواب هنا هو أنه لا يمكن وجود سبب لذلك إلا وفاة رئيس اللجنة أو استقالته، وفي غير ذلك فإن التكليف يتم من رئيس اللجنة.
وما كان النص على تكليف المقرر ليقر لو لم يكن المشترع قد أخذ في الاعتبار المبدأ المشار إليه سابقاً، فأوجد صيغة وحلاً لتعذر ممارسة رئيس اللجنة صلاحيته بالدعوة، وكل تفسير يخالف هذه النية يصفه معنيون بالشأن البرلماني بأنه «غير دقيق، فلو كان الأمر غير ذلك لكان المشترع قد حدَّد الحالات التي ينشأ عنها التعذر، ولم يجعلها عامة شاملة لأي سبب يحول دون توجيه الدعوة. فالتعذر هنا هو الحالة الأبعد مدى في شموليتها من إرادة رئيس اللجنة بحيث تكون شاملة لها أيضاً وتسري عليها لأي سبب كان». ولعل هذا ما يفسر «إقحام» رئاسة المجلس بتوجيه الدعوة إذا تعذر على الرئيس الدعوة أو تقاعس في توجيهها. والسؤال هنا هو: من يقرر تحديد الحالة التي يتعذر فيها على رئيس اللجنة دعوتها؟
إن المادة 27 من النظام الداخلي ذكرت من يتولى صلاحية الدعوة في حال وجود عذر يحول دون توجيه الدعوة من رئيس اللجنة فقط، لكنها لم تحدد أسباب نشوء التعذر ليصار إلى تكليف المقرر. وهذا يعني بوضوح، ولا يقبل تأويلاً، أن حالة النشوء هذه تنشأ عندما لا يقدم من يملك الصلاحية الأساس بممارسة صلاحيته، وبهذا المعنى فإن «إقحام» رئاسة المجلس بتكليف المقرر يرتبط بشكل مطلق بالحالة القائمة اليوم، أي بامتناع رئيس اللجنة عن دعوتها للاجتماع.
ويمكن أن يشذ عن هذه «الإطلاقية» حالة وفاة رئيس اللجنة أو المرض الذي يحول دون ممارسة حقه بالتكليف، لكن ما يجب أخذه في الاعتبار هنا ان توافر إحدى الحالتين لا يؤدي إلى ان يكلف الرئيس المقرر بدعوة اللجنة للاجتماع ودرس المشاريع المحالة إليها، وإنما لممارسة صلاحيته بالدعوة إلى أن ينتخب أعضاء اللجنة رئيسها البديل وفق المادة 23 ـ نظام داخلي.
وهذا سبب آخر من الأسباب التي تؤكد ان تمنع رئيس اللجنة عن الدعوة، كما هي الحالة القائمة اليوم، تنشئ صلاحية رئيس المجلس بتكليف المقرر. وإلا فلماذا يا ترى جاء في النص حق رئيس المجلس بتوجيه الدعوة، في وقت رئيس اللجنة حي وصحته جيدة والاتصالات معه غير مقطوعة ومطالبته بممارسة مسؤوليته عارمة والمشاريع المحالة إلى اللجنة كثيرة جداً ومعظمها من الأهمية بمكان. أليس لتعذر اجتماع اللجنة بفعل إضراب من له صلاحية الدعوة أساساً؟
إن صلاحية رئاسة المجلس في الحرص على تسيير أعمال المجلس هي مسؤولية دستورية وليست خياراً له. فنصوص النظام الداخلي يقتضي وجوباً تفسيرها بالأخذ في الاعتبار هذا المبدأ الدستوري وأحكام الدستور، وحتى إذا لم يكن من نصوص على مثل هذه الحالة تتعلق بمطبخ المجلس الداخلي، فإن رؤية رئاسة المجلس تتحول في مفاعيلها إلى ما يقارب النصوص. فالرئاسة تتكلم باسم المجلس الذي يرعى رئاسته الدستور والأحكام في داخله، وهذا يكفي لجعل أي مقاربة بين هذه الرئاسة ورئاسة «مطبخ داخلي» في الصلاحيات ممجوجة، أو غير جائزة على الأقل، إلا إذا كان هناك من يطمع بقضاء أسبوع ثان في فندق جديد.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك