كلب وذئب-دجاجة وديك

عاصم البعثي (نتحفظ عن ذكر إسم عائلته الكريمة كي لا يلوّثها من سفاهة ألفاظه غبار)  يبدو أنه غير معصوم. يعرف كيف يشتم النائب خالد الضاهر لأنه أيّد الشعب السوري.

لكن ثقافة عاصم البعثي لا تُعينه على إلقاء خطاب تحت قبة البرلمان، فيمنح ثقة لحكومة رئيسه الأسدي، من دون حتى كلمة مجاملة لها ... ولو نفاقاً. المشكلة هي في الشحّ الثقافي: إما يضج بشتيمة ... أو يخضع بصمت.

المسألة تتجاوز الإهانة والسفاهة والقدح والذم لتصب في صلب ثقافة الحياة، التي يبدو أن مصدر غناها عند عاصم البعثي هو مجرد ... "حكي" كلب، على ما قال في وصف خطاب النائب الضاهر.

الإلتباس الثقافي واضح لدى عاصم البعثي. فهو حتماً لم يصل في المعرفة إلى درجة التمييز بين نباح كلب ... وعواء ذئب، فأشكلت عليه ... الثقافة.

لغوياً، يا أيها البعثي غير المعصوم، الكلب ينبح. ينبح الكلب عندما يخاف. والكلب يخاف لدى سماعه عواء الذئب، من بين أصوات أخرى. وإذا عوى الذئب، يرخي الكلب أذنيه، يتدلّى ذيله بين ساقيه ويسبل البول من إحليله ... لكنه لا يتخلى عن عناده، فيشتم مجدداً مستعيناً بنباحه، ولكن بمفردات من صحنه، وقاموس غذائه ... ومعلفه.

يعوي الذئب. يستشيط الكلب غيظاً ... وينتابه الذعر أيضاً، فيهرب إلى كوّته. يحاول إستعادة "كبريائه" بأن يلعق قفاه بلسانه المجروح ... فيصمت.

الكلب يلعق، هذه حقيقة ثابتة علمياً، ولا نقاش فيها. يلعق كل شيء. يلعق جراحه ... ويلعق حتى الماء. لا يحسن الشرب، فقط اللعق.

الذئب يعض جرحه، إذا أصيب، يغب الماء إذا عطش، لكنه ... لا يلعق.

الكلب ينبح. هذه حقيقة علمية - لغوية. ولكن الكلاب أطباع. يحكى أن كلباً جاء من سوريا إلى لبنان عبر الخط العسكري في حقبة الإحتلال. رأى كلباً من لبنان عليل الصحة، هزيل الجسم، فدعاه للعودة معه إلى حيث الطعام وفير والإستقرار ... أوفر.

غادرا لبنان معاً على الخط العسكري. وبعد شهر في الحي الراقي الهادئ المستقر تحسنت صحة "الكلب اللبناني" لكنه قرر المغادرة والعودة إلى حيث الجوع والوضع غير المستقر.

سأله ربيب نعمة الاستقرار والوقار: لماذا تغادر وقد تحسنت صحتك؟

أجابه "الكلب اللبناني": أريد أن أنبح. أريد أن أنبح. فقط أريد أن أنبح.

المسألة كلها لها علاقة بصلب الثقافة. والثقافة ثقافات، كما هو متعارف عليه، وليست ثقافة واحدة. بينها ثقافة الكلب ... وثقافة الذئب وما بينهما من ثقافات النعامة والدجاجة والأرنب والثعلب وغيرها من المخلوقات. وكلّ من ثقافته ينهل.

على ذكر الدجاجة. جاء في الروايات المتداولة أن مصاباً بانفصام الشخصية تهيأ له أنه حبة قمح، وأن دجاجة تريد أن تأكله.

أُدخل مصح دير الصليب للأمراض النفسية والعصبية. عالجه "بروفسور" لبناني من أصل أرمني، أخضعه لجلسات "إقناع" وأعطاه أدوية للعلاج ... فشفي أو هكذا تراءى ... له، وليس للطبيب.

أُخضع لامتحان من قبل مجموعة أطباء للتصديق على إفادة شفائه. أجاب عن كل الأسئلة بموضوعية وواقعية. ظنوا أنه شفي ... فأطلقوه.

بعد فترة ألقى الرجل خطابا عاما، جاء فيه: "أنا رجل. أنا لا أخاف. لست حبة قمح. أنا رجل". فصفق له الحضور ... ولكن بعد فترة استفاق العاقل غير المنفصم على حقيقة أنه اقتنع بأنه ليس حبة قمح، ولكن هل هناك من يقنع الدجاجة بأنه ليس حبة قمح؟ هذه هي المسألة، وهنا يكمن التحدي.

الرجل "وزنة"، وليس مجرد حبة، أو هكذا يتراءى له، ولكن الدجاجة لا ترى فيه إلا حبة. فمن يقنع الدجاجة بأنه "وزنة"؟

هذه لا شفاء منها، وفق رأي الطبيب الذي أشرف على العلاج الأولي. هذه ليست إنفصاماً. هي مشكلة، أيضاً تصب في عمق الثقافة، ثقافة الخوف ... من الدجاجة.

المسألة تتجاوز القدرة على إقناع الضحل ثقافياً بأنه ليس حبة قمح. ربما هو بحاجة لمن يقنعه بأنه ... ديك! وهذه مهمة قد تكون أكثر صعوبة من "الشفاء" الأولي.

روى لي صديقي أن ديكاً كان يطارد دجاجة على "الكورنيش" وهو يردّد "إذا أدركتها أقفز عليها، إذا لم أدركها ... بكون عملت سبور".

الدجاجة، على ما رواه صديقي، كانت تسرع الخطى وهي تتمتم: "إذا أدركني وقفز عليّ سيقال عني أني عاهرة، وإذا كنت أسرع منه ولم يدركني أخسر ... قفزته".

المسألة كلها ثقافة. لا علاقة لها بالأخلاق، ولا بالقيم ولا بما يحظره القانون.

المسألة لها علاقة بتضارب مضامين الثقافة في قواميس الكلب، والذئب، والدجاجة، والديك.

الدجاجة تنقر "الكتاكيت" لا الديوك، ونباح الكلب لا يخيف ... من كان ذئباً.