عندما نجحت الاكثرية الجديدة في إقصاء الرئيس سعد الحريري عن رئاسة الحكومة بـ«جراحة سياسية» دقيقة، نفذت بعناية فائقة بعد استخدام «البنج الدستوري»، رفع الكثيرون القبعة لهذه الاكثرية التي استطاعت تغيير معادلة السلطة وتوازناتها بأداء «أنيق» ومن دون إراقة أي نقطة دم في الشارع، على رغم التهويل الذي سبق ذلك الانقلاب الأبيض.
وعندما نجح الفريق ذاته في تكليف الرئيس نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة الجديدة بغالبية 68 صوتا، قيل انها «ضربة معلم» إضافية تعكس براعة في إدارة المواجهة مع قوى 14 آذار وحلفائها الخارجيين، باعتبار ان ميقاتي الذي يتقن حمل العصا من الوسط يمكن ان يكون عنوانا للتغيير الداخلي في طريقة التعامل مع الملفات الساخنة والمعقدة من المحكمة الدولية الى سلاح المقاومة وما بينهما من ملفات مثل التعيينات والقانون الانتخابي، من دون ان يتسبب في الوقت ذاته باستفزاز كبير للطائفة السنية محليا، وكذلك للمجتمع الدولي، بناء على نصيحة تركية بامتياز.
الى هنا، يمكن القول ان الاكثرية الجديدة استطاعت ان تحقق «نصف انتصار» كان ينتظر ان يجد نصفه الآخر من خلال الاسراع في تشكيل حكومة مريحة، تملأ الفراغ وتستفيد من أخطاء الآخرين لتقدم نموذجا مختلفا في الحكم.
ظن الجميع ان عملية التأليف لن تستغرق وقتا طويلا بعد إعلان قوى 14 آذار عن رفضها المشاركة في الحكومة، لتقتصر عملية «حصر الإرث» على مجموعة من الأطراف السياسية التي كان يفترض انها متجانسة ومتناغمة ومكملة لبعضها البعض، بما ينبغي ان يمنحها قدرة على الاسراع في التأليف وعلى الغزارة في الانتاج، بعد طول تعطيل وتصريف أعمال حتى من قبل أن تصبح حكومة الحريري مستقيلة.
إلا ان ما حصل لاحقا شكل مفاجأة كبرى. الايام والاسابيع تمر تباعا من دون ان تتشكل بعد حكومة الاكثرية «الفتية» التي بدأت تجد نفسها محرجة امام اللبنانيين، بينما راح الحريري يراقب بكثير من «الشماتة» عجز خصومه عن تعويض غيابه. وهكذا، لم يتأخر فقط اكتمال الانتصار السياسي لإئتلاف الثامن من آذار وميقاتي، بل ان بريق ما حققه هذا الائتلاف منذ إزاحة الحريري عن السلطة يكاد يخفت، تحت وطأة الخلافات على تقدير الاحجام والأوزان، وكل ذلك على قاعدة النظرات المتباينة لخارطة طريق ما بعد الحكومة الجديدة.
ولا تخفي شخصية بارزة في الأكثرية الجديدة، امتعاضها من المسار الذي سلكته الامور، بعدما تم تضييع فرصة ذهبية لتشكيل الحكومة قبل قرابة الشهر ونصف الشهر وبالتالي إهدار الزخم الاول الذي تأتى عن تكليف ميقاتي، مشيرة الى ان الرئيس المكلف والعماد ميشال عون انزلقا الى حسابات مبالغ فيها، بدلا من ان يتبادلا التنازلات والتسهيلات، على قاعدة ان كل أنهار الاكثرية الجديدة تصب في نهاية المطاف في بحر سياسي واحد، مهما تعرجت مجاريها.
وتنصح هذه الشخصية الحلفاء بان يستدركوا سريعا ما فات وأن يتعاونوا على تشكيل الحكومة لمواجهة التحديات المتراكمة، «لأن سعد الحريري لن يميز بين هذا وذاك، ولن يرحم أحدا منكم، ايا كانت مواصفات الحكومة، ما دام هو خارجها..».
ولكن.. أين تكمن الحلقة المفقودة؟
من الواضح ان ميقاتي لا يستعجل التأليف بشروط غيره، مرجحا ان لا خيارات واسعة امام الاكثرية الجديدة التي ستكون مضطرة آجلا أم عاجلا الى تليين طروحاتها وملاقاته في منتصف الطريق، وهذا الأمر يسري بالدرجة الأولى على العماد عون، ولعل الرئيس المكلف يفترض انه يبحر وهذه الاكثرية على المركب ذاته، فإذا غرق هو ستغرق معه، وبالتالي فهي ستكون مضطرة في لحظة الحقيقة الى إنقاذ سمعتها ومصداقيتها وعدم إعطاء أي انطباع بان الحريري محق في تحميلها المسؤولية عن العرقلة والتعطيل أيام حكومته، بدليل انها لم تستطع التفاهم حتى مع من يشكل رمزا للوسطية والاعتدال.
وحتى ذلك الحين، فان الكباش الحاصل مع عون لا يضر كثيرا الرئيس المكلف الذي يستفيد منه على الارجح لإعادة ترميم رصيده وصورته في الطائفة السنية، بعد الاتهامات التي وجهت اليه بانه مرشح «حزب الله» وبانه جاء الى رئاسة الحكومة على أساس دفتر شروط مسبق، وليس أدل على «عائدات» هذا الكباش من «احتضان» المجلس الشرعي الاعلى لميقاتي خلال اجتماعه الاخير رفضا لمحاولة فرض الشروط عليه وتجاوز صلاحياته، خلافا للمناخ الذي ساد الاجتماع السابق وثمة حديث عن «انبهار» المشاركين في جلسة المجلس الشرعي بميقاتي، الذي دخل عليهم، وتحدث بالتفاصيل، رافعا مجموعة لاءات بأن الفتنة السنية ـ السنية خط أحمر والفتنة السنية الشيعية خط أحمر وأن الطائف عندما أعطى الصلاحيات لرئيس الحكومة، أعطاه اياها لأنه يمثل أمة وليس مذهبا أو عشيرة، مؤكدا أن السنة هم أهل الاستقرار ودعامته.
أما العماد عون فله حساباته أيضا. يعتقد «الجنرال» على الارجح ان «تذكرة السفر» التي قطعها الرئيس ميقاتي بعد قبوله بالتكليف هي في اتجاه واحد، ولا تتيح له العودة الى الوراء.
أغلب الظن، ان «الجنرال» يتمسك بمطالبه مراهنا على ان ميقاتي سيستجيب لها، ولو بعد حين، وهو يفترض ان الرئيس المكلف يدرك جيدا انه إذا تراجع الى الخلف واعتذر عن التأليف فهذه ستشكل نهايته السياسية لانه سيكون قد خسر حلفاءه الجدد من دون ان يربح سعد الحريري الذي لم يبتلع بعد «انقلابه» عليه، ما يعني وفقا لهذه القراءة انه محكوم بالتفاهم مع عون وباقي رموز الأكثرية، والمطلوب القليل من الصبر فقط.
ويرى المتحمسون لمطالب عون أن ميقاتي يبالغ في «مناوراته» السياسية التي قد تكون مشروعة وطبيعية، ما لم تتجاوز سقف تحسين الشروط التفاوضية لبعض الوقت، أما أن يتحول التكتيك إلى إستراتيجية لكل الوقت، فهنا تكمن المشكلة، كما يعتقد هؤلاء. وهناك في أوساط 8 آذار من يقول انه سبق لـ«حزب الله» أن نصح ميقاتي باعتماد «خريطة طريق» معينة، كانت ستقوده إلى التفاهم مع عون والمعارضة السنية السابقة، ولكنه فضل أن يشق دروبه الخاصة، وهذا حقه، إلا أن ذلك يعني أيضا أن عليه تحمل مسؤولية منهجية العمل التي اختارها، فالحزب هو شريك وسيستخدم كاسحة الألغام في الوقت المناسب. ولهذا السبب ربما، قرر «حزب الله» اعتماد صياغة خاصة وبعيدة عن الأضواء مع العماد عون، واكتفى في ما خص تمثيل المعارضة السنية السابقة بالتمني على الرئيس المكلف إيجاد صيغة ما لإرضاء الرئيس عمر كرامي سواء بتوزير ابنه فيصل أو بأي خيار يحظى بمقبولية الرئيس كرامي، ويسري الأمر نفسه على موضوع تمثيل الحزب القومي وايجاد الصيغة المناسبة للتمثيل.
ويبدو أن «حزب الله» يتصرف على أساس أن واجبه الأساسي يقضي بتقديم كل التسهيلات، من جانبه تحديدا، لمساعدة الرئيس المكلف على إنجاز مهمته، وهو بذلك يريد أن يوجه رسالة إلى من يهمه الأمر مفادها انه ليس صحيحا أن الحكومة هي حكومته وان الرئيس المكلف هو ممثله، بدليل أن ميقاتي يخوض غمار التأليف بهوامش لم تتوفر منذ العام 1990 لأي رئيس حكومة غيره، وهو يتمسك بكل نقطة وفاصلة في الدستور... وهو يدرك أنه صاحب مصلحة استراتيجية في تشكيل الحكومة، وأن نجاحه سيعتبر نجاحا للأكثرية الجديدة كلها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك