الانتفاضات الشعبية العربية الفارضة نفسها على مختلف الطاولات السياسية في العالم بصفتها مدخل التغيير القادم الى المنطقة، لم تنجح حتى الآن في قلب المعادلة على الأنظمة القائمة، وفق ما يبدو مما تتناقله وسائل الإعلام على أقل تقدير.
نعم، حصل تغيير في تونس بإزاحة الرئيس بن علي وكذلك في مصر، لكن أين هي قوانين الأحزاب وحرية الإعلام والاقتصاد الليبرالي الحر القائم على المبادرة الفردية؟ وأين الانتخابات الحرة، سواء نيابية أو رئاسية، بعد مرور أشهر على التغيير؟ الثابت أن التونسيين يراوحون مكانهم، وأن المصريين أطاحوا بالرئيس حسني مبارك القادم من الجيش ليحل المجلس العسكري محله، فهل هذا ما طمح اليه المحتجون؟
في ليبيا الحرب طاحنة، وفي اليمن الأمور ليست بأفضل حال بعدما أعلنت القاعدة إحدى محافظات البلاد إمارة إسلامية، وفي سورية لم يأتِ الخطاب الذي طال انتظاره للرئيس بشار الأسد بحجم التوقعات، بمعنى أن المراوحة على هذه الساحات تبقى سيدة الموقف أيضاً.
الطموح العربي المشروع في الانتقال من زمن الرأي الواحد الى عصر التطور والتعددية والممارسة الديموقراطية الشفافة لا يمكن الوصول اليه من دون أجندات توضع في التطبيق من جهة، وتحمي الحركات الاحتجاجية من أن يتخذها الغرب مطية لمشاريعه الجاهزة من الجهة المقابلة.
هنا يجدر التنبيه الى أن التغيير السريع، الذي قد يكون مضراً في بعض الأحيان، يبقى دليلاً يعتدّ به على صدقية الجهات الساعية اليه، كما ان إطالة أمد الوصول الى التغيير المنشود تعطي الفرصة لأكبر عدد من القوى الخارجية لتصبح أطرافاً أساسية في تحديد بوصلة ما سيفرزه التغيير.
اللافت في الاحتجاجات العربية المنتقلة كعدوى بين الدول، لأن للعرب من المصائب الجامعة ما يكفي ليشكل حافزاً وقاسماً مشتركاً، انها بقيت في إطارها المحلي ولم تكسر الطوق لترفع شعارات إقليمية أو لتبرز مطالب عربية عامة كتحديث ««الجامعة» أو تأسيس السوق المشتركة أو العملة الموحدة أو تسيير خطوط قطارات أو رفع الازدواج الضريبي وشطب التأشيرات.
أتحدث عن هذا لأقول إن كل الاحتجاجات ولدت من باب «الأولوية الوطنية أولاً»، بمعنى ان المصريين مثلاً لم يفكروا بمخاطر تقسيم السودان المجاور وما ينتظرهم من تداعيات صراع الشمال مع الجنوب، بل انتفضوا لأنهم نظروا الى أنفسهم أولاً وانطلقوا من أحوالهم ومن معاناتهم مع الفساد الداخلي. وكذلك الحال بالنسبة للتونسيين والليبيين واليمنيين والسوريين.
إذاً، لماذا يتشاطر دعاة تعلم دروس الجغرافيا السياسية في لبنان على رافعي شعار لبنان أولاً؟
مرّ وقت الآن على هذا الكلام، لكن عندما تنظر الشعوب الى مصالحها الفردية لا يمكن ان يبقى الشعب اللبناني في بازار المزايدات من باب العروبة أولاً والربط بالمحاور الإقليمية من ضمن شعارات المقاومة والممانعة، التي لم تحظ أصلاً بلافتة من ضمن كل الحراك الشعبي العربي المستجد. وربما كان أسطع دليل على ذلك مقاطع الفيديو التي بثت من التظاهرات السورية الرافضة للتفاعل مع الحليف الإيراني أو مع «حزب الله». وتأكد ذلك أيضاً في البحرين إن من حيث خطاب أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله الشهير، أو من حيث اتهام الحكومة عبر وزيري الداخلية والخارجية للحزب بتغذية الاحتجاجات، خدمة للأجندة الإيرانية.
بالتالي النبض الشعبي العربي الرافض لهذا البرنامج لا يمكن تجاهله، وإن قيل ان بعض المحتجين في مصر طرح إعادة النظر في اتفاقية السلام مع اسرائيل، فإن ذلك لم يتعدّ حاجز التعبير عن وجهة نظر لم تتبلور، بل جاء رد المجلس العسكري الحاكم سريعاً ليؤكد احترام مصر كلّ المواثيق والمعاهدات الدولية التي وقعتها القاهرة.
يحق لعموم اللبنانيين الذين رفضوا السلاح من ساحة الشهداء أن يسألوا عن سبب مقنع لاستمرار شبكهم رغماً عنهم بدفتر شروط مرفوض من الشعوب العربية المنتفضة، وتحديداً بعدما تبين أن أصحاب هذا السلاح لم يستديروا به الى الداخل اللبناني وحسب بل تقدموا خطوة باتجاه تصدير منهجهم الى الدول العربية، في خطوة رأى فيها البعض افتراساً للسياسة الخارجية اللبنانية.
من ضيق الأفق السياسي ان ينظر الداعون لتعلم دروس الجغرافيا السياسية الى فكرة «لبنان أولاً» أو «لا للسلاح» على انهما تصبان في التقوقع والانعزال وتعرية لبنان، لأن المناداة بحفظ مصالح لبنان وأبنائه لا تعني فصله عن محيطه العربي الذي تبين انه ينظر الى نفسه أولاً.
لكن الأساس دائماً يكمن في تحصين الساحة الداخلية من أي فكرة عامة، ومن السلاح بخاصة، لمنعها من الانزلاق الى أماكن تهدد بعودة الحرب الأهلية.
إن الخروج من التقوقع ومن الأيديولوجيات السامة يتطلب أولاً التخلي عن الحكم على هذا الفريق أو ذاك بالعمالة والارتهان لأي مدرسة تخالف أصحاب السلاح في الرأي.
يحق للبنانيين أن يسألوا عن مصادرة حقهم في رسم التوجه النهائي لبلدهم بينما تخطّ الشعوب الأخرى توجهاتها المستقبلية على أسس مصالحها الذاتية، والوطن يفقد معناه ويزول، إذا فُرض على أبنائه بالقوة، ما لا يؤمّن مصالحهم أو إذا لم يكن من عصبية تجمعهم، وفق ما عرفها ابن خلدون.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك