كلّما أقلعت طوّافة من قاعدة القليعات العسكرية شمالي البترون، يعمّ سكون ثقيل أرجاء المنزل، وحده هدير الطائرة يحكي حسرة عائلة..."كلمّا أقلعت طوّافة لا نقوى أنا والياس على حبس دموعنا...منِتذكر سامر.. يا ماما إنت هلّق بحضن العدرا، إنت مِتْ مغدور، حمِي رفقاتك، حمِي لبنان مع إنّو ما حماك".
عندما تنظر إلى وجه والدة سامر حنا تشعر أنّ بعض الناس يموت كثيرا... وكأنّ للممات كما للحياة قياسا.
وكما تقاس حياة الانسان بعدد السنين التي يحياها، هكذا موته يقاس بمقدار الوجع الذي يتركه الرحيل على وجوه محبّيه... نعم، سامر حنا مات كثيرا. شرب كأس الموت غصبا عنه وعن والديه. تجرّعها قطرة قطرة فوق تلّة سُجد. لم يعرف يومها من قتله. لم يحسب أنّ لبنانيّا يمكن أن يقتله... وهو العارف أنّ الجندي يموت برصاص "العدو"، لكنّ أهله وأصدقاءه ومحبيه ...يعرفون!
لضيق الوقت؟!
"لم يكن مسموحا للجيش اللبناني الهبوط في منطقة سجد، بسبب وجود مراكز للمقاومة في المنطقة"، قال محمد علي خليفة، عضو لجنة الارتباط والتنسيق بين "حزب الله" والجيش اللبناني في الجنوب؛ كان هذا يوم الجمعة 11 آذار الفائت في آخر جلسة لمحاكمة العنصر في "حزب الله" المتهم بقتل سامر، وأضاف خليفة في معرض إفادته أنه كان على تنسيق مع قيادة الجيش في الجنوب، عبر مسؤول المخابرات في إقليم التفاح العقيد الركن عدنان غيث، وأنّ الأخير أبلغه في صباح اليوم الذي قتل فيه حنا، أنّ طلعات جوّية تدريبية سيقوم بها الجيش في سُجد، لكنّه علّل عدم إبلاغه عناصر "حزب الله" الموجودين في المنطقة بـ"ضيق الوقت"، و"وجود تراتبيّة في هيكلية "حزب الله" لا يمكنه تخطّيها.
"ما بيستحوا؟"
في منزل الياس حنا في البترون وجع أمٍّ لا يعرف الصدأ، الحزن أقوى من السلاح، ووجع الأمّ أشدّ وأمضى من السيوف؛ تحرص عائلة "الرائد الشرعي" سامر كما يقول أترابه، على عدم تسييس قضيتها، لكنّها تأبى الصمت كي لا يظنّ القاتل أنّ قضيتها يمكن أن يطويها سلاح. العائلة تطّلع على محاضر جلسات المحاكمة عبر وسائل الإعلام، لأنّ القضاء العسكري لا يجيز لأصحاب الحقّ الخاص حضورها... "السلاح موجّه الى الداخل، وهو وجّه إلى صدر ابني"... تقول أمّ سامر وتضيف: "ابني قتل بسلاح لبنانيّ وعلى أرض أقسم يمين الولاء لها وللدفاع عنها"... تضرب كفّا بكف وتسأل:"ما بيستحوا يقولوا إنّو في مناطق محظورة على الجيش؟"...
أكثر ما يؤلم الأم أنّ ولدها مات مظلوما ومغدورا، "سامر لم يقتل في معركة ضدّ عدوّ، مات مظلوما، سقط في موقع كان يحسبه آمنا... لو سقط في معارك نهر البارد، أو خلال تصدّيه لإسرائيل أو لأي من أعداء لبنان، لكان وجعي أخفّ وطأة، أمّا أن يقتل غدرا، فهذا ما لا أقوى على تقبّله".
إبني مات مرّتين
سنتان وثمانية أشهر مرّت على استشهاد النقيب الطيّار سامر حنّا، سنتان وثمانية أشهر وأمّ سامر تنام على وسادة ولدها الصغير، تكفكف دموعه، تقبّل جبينه وتردّد بقهر، "ابني مات مرتّين، مرّة بسُجد، ومرّة بعد إطلاق سراح المتهم بقتله بعد أقلّ من 10 أشهر على تسليمه"، أي في 17 حزيران 2009، ثمّ ترمق بناظريها صورة ابنها، وتقول: "لا نعرف إلى أين وصلت المحاكمة ولا نتوقّع الكثير... "لم أصدق عينيّ حين قرأت الخبر في أسفل شاشة التلفاز، قرأته مرّة واثنتين وثلاثا... "يطالبون بإلغاء المحكمة الدوليّة، وفي الوقت نفسه يلتفّون على القضاء اللبناني... قاتل ابني معروف ويماطلون في محاكمته، فكيف إذا كان القاتل مجهولا؟"... "أقاموا الدنيا ولم يقعدوها دفاعا عن الضباط الأربعة، عن حق أو عن غير حق هذا شأنهم، ألا يستأهل نقيب في الجيش اللبناني أن يُحاكم قاتلوه على أساس العدل"؟
لا تخفي أم سامر عتبها على بعض المسيحيّين، "هم أحرار في صوغ التحالفات التي يرونها مناسبة، تقول، ولكن كان أولى بهم أن يقفوا وقفة مع ضميرهم في قضيّة ابني... ليس عبر صفيحة البنزين يدخل السياسي التاريخ، بل يدخله عندما يدافع عن قضايا مجتمعه، وعندما يشهد للحق".. عاتبة على جهات كثيرة، لكنّني أفضّل السكوت أحيانا، وأشرك ألمي مع آلام أمّهات الشهداء، وجنود لبنان".
- شو بتقولي لسامر اليوم؟
-آآآآخ تطلقها أم سامر من أعماقها لتصدح في صقيع الغياب.."يا ماما أنا كلّ يوم بشتقلك...كنت توصل عالبيت، اذا ما لقيتني تنده يا إمّي وينك..أنا كلّ يوم بعيّط يا سامر وينك... يا ريت فيك تردّ عليّي...
النيابة العسكرية تستأنف: القتل عمداً
في 8 أياّر 2009 أصدر قاضي التحقيق الأول رشيد مزهر قراره الاتهامي بعد التحقيق مع مصطفى المقدّم الذي حصر فعل إطلاق النار على الطوّافة به وحده، مفيدا: " كلّفتُ شرعيّا حصر الأمر بشخصي"، مع أنّ إفادته لاحقا أمام هيئة المحكمة العسكرية، كما إفادات الشهود بيّنت وجود أكثر من مطلق للنار، وإن تناقضت الإفادات في شأن أعدادهم.
طلب مزهر عقوبة السجن خمس سنوات كحدّ أقصى سندا للمادة 550 من قانون العقوبات، على أساس أنّ فعل مقدم هو من نوع جناية التسبب بالقتل من غير قصد القتل. وجاء القرار خلافا لمطالعة النيابة العامة العسكرية، التي استأنفته أمام محكمة التمييز مطالبة بالحكم سندا للمادة 547عقوبات على اعتبار أنّ القتل متعمد.
وفي 13 حزيران 2009 مَثل مقدّم أمام المحكمة العسكرية، وقال ردّا على أسئلة هيئتها، أنّه "لم يلحظ علما أو إشارة تدّل على أنّ الطيارة لبنانية، وظنّ أنّ الطوافة إسرائيلية". كما أفاد أنه أطلق النار فوق الطوّافة، لأنّه لم يكن يقصد قتل من فيها، مع العلم أنّ ظنّه في أنّها اسرائيلية يوجب عليه إطلاق النار بهدف القتل!.. وبعد الاستماع إلى إفادة المقدّم التي تضمنت جملة تناقضات، قدّم محامي مقدم طلب إخلاء سبيل بكفالة ماليّة، سندا للمادة 108 من أصول المحاكمات الجزائية، التي تعطي الموقوف حقّ طلب إخلاء السبيل بعد ستة أشهر من التوقيف.
وافقت المحكمة، وعشرة ملايين ليرة لبنانية كفلت خروج مصطفى المقدّم إلى الحرّية، وتكفلت بعدم خروج سامر... الى الحياة!
وبالعودة إلى محاضر جلسات المحاكمة، يتبيّن أنّ التباس المتهم في هويّة الطائرة تدحضه إفادة الملازم الطيّار محمود حسين عبّود، الذي كان إلى جانب حنا لحظة استشهاده. يقول عبود أمام المحكمة في 19/ 2 /2010 إنّه قام بطلعات تدريبية في المنطقة نفسها أربع مرات خلال الأسبوعين اللذين سبقا الجريمة، ويشير إلى أنّه في المرّات الاربعة كان يهبط بالطوافة في المكان نفسه. كذلك أكّد عبود بخلاف إفادة مقدّم أن علمين لبنانيين كانا معلّقين في مقدّمة الطوافة ومؤخرتها.
كما كشف عبّود في إفادته أنّ "المسلحين أطلقوا النار على الطائرة عندما كانت تهّم بالإقلاع، وكانت قد ارتفعت عن الأرض نحو نصف المتر، مبيّنا أنّ المسلحين جاؤوا من خلف الطوّافة، وكانوا نحو 15عنصرا، وأطلقوا النار من بنادقهم فوق الطائرة، وهي من نوع كلاشينكوف "وأم 4"، ومن ثمّ أطلقوا النار مباشرة على النقيب حنا.
ويقع المطّلع على محاضر جلسات المحاكمة أيضا، على تأكيد ضباط الجيش الذين أدلوا بإفاداتهم أمام المحكمة، إجراء تدريبات في سُجد غير مرّة قبل 28 آب 2008، وأنّ حزب الله كان على علم بتلك التدريبات، وهو ما أكّدته إفادة المسؤول في الحزب محمد خليفة.
فالمقدّم الطيّار روجيه إميل الحلو، الذي تعرّف على مقدّم، وأشار إلى أنّه رآه في سُجد بعد مقتل حنا، أكّد أنّ أحدا لم يبلّغهم بالمنع من الهبوط أو إجراء تدريبات جوّية في المنطقة التي وقع فيها الحادث، وأنّه سبق لهم أن أجروا تدريبات في المنطقة نفسها".
ويرى وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال بطرس حرب أنّ "قضية سامر حنا هي ترجمة مباشرة لحقيقة السلاح غير الشرعي على الأراضي اللبنانية، فسلاح حزب الله بدل أن يستعمل ضدّ إسرائيل، فهو يستعمل ضدّ اللبنانيين، واستعمل في قضية سامر ضدّ الجيش اللبناني".
إنّ قتل سامر حنا، أردف حرب، أثبت أنّ ثمّة حظرا يضعه حزب الله على بسط الدولة اللبنانية سلطتها، وبقواها الشرعية وعلى كامل الأراضي اللبنانية"، مشيرا إلى أنّ "حزب الله أراد توجيه رسالة إلى الجيش من خلال قتل سامر حنا، مفادها أنّ الجيش ملزم التقيّد بمفهوم حزب الله للسيادة، أي أنّ تخطي الجيش لقواعد التحرك التي يقبل بها حزب الله يعرّضه للاعتداء، كما حصل مع طوّافة سامر حنا، التي علم مطلقو النار عليها في سُجد أنها لبنانية". وإذ رأى حرب أنّ سلاح حزب الله يتحكّم في تفاصيل الحياة السياسية والأمنية والقضائية في لبنان، أكّد أنّ الحزب يريد لفلفة قضية سامر حنّا، وهذا ما دفعنا إلى استنكار الطريقة التي تمّ التعامل بها مع الملف، خصوصا لجهة إخلاء سبيل المتهم في القضية، والذي شكّل إساءة الى الجيش اللبناني، ولأهل الشهيد حنا". واعتبر أنّ قيام الدولة مستحيل في ظلّ فرض حزب الله أولويّة لأمنه على أمن اللبنانيين وجيشهم.
غاب النقيب سامر حنا، لتغيب معه شمس العدالة...وحتى إشعار آخر، في زمن صارت الأعمال الشرعيّة تحتاج الى تبرير، بينما القاتل يحاكِم (بكَسر الكاف) ويقتُل ويُحاكِم من جديد.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك