حتى في سجن رومية هناك "غرف عمليات"، في الداخل والخارج، تنظم التمرد وتدير الانتفاضة وعمليات الشغب، وتدوزنها على إيقاع مضبوط لتحريك "شوارع" معينة بعمليات قطع طرق مدروسة. هذا ما بينته "ثورة" الأيام الأربعة للسجناء من الداخل، والأقرباء في الخارج.
طبعاً لا يمكن أحداً التنكر للمطالب الإنسانية المحقة والمشروعة للسجناء وذويهم، في ضوء الواقع المزري لهذا السجن المركزي، الذي لا يتميز بكثير عن السجون المناطقية، فكرامة الموقوف او المحكوم وحقوقه كإنسان ومواطن يفترض أن تعلو، أو توازي على الأقل، منطق العقوبة او الإجراء القانوني. وهذا ما تتبعه الدول التي تحترم نفسها وقوانينها ومواطنيها.
غير ان الحقيقة المؤسفة التي تجنب سائر المعنيين مباشرة بمعالجة هذه المشكلة، او سواهم من السياسيين، وضع اليد عليها، لا تتعلق فقط بتسييس التمرد او استغلاله لمآرب معينة، بل بواقع الاستقواء على الدولة والنظام والقانون، رغم شعارات - مطالب قد يكون الكثير منها محقاً.
لا نفهم، مثلاً، لماذا تكون حقوق السجناء، الذين هم على صورة المجتمع اللبناني، رهناً بلون طائفي او مذهبي معين، كما عكست الصورة النافرة لهذا التمرد؟ لماذا تحركت شوارع معينة ولم تتحرك شوارع أخرى، ما دام في سجن رومية سجناء من مختلف الطوائف والمناطق اللبنانية؟ وما هذه الصدفة السحرية، الغريبة العجيبة، التي حركت مناطق معينة وقطعت طرقاً لها مواصفات محددة فقط من دون مناطق أخرى؟
لماذا لا تكشف الحقائق كما هي، على علاتها؟ هناك فضيحة فساد، مكشوفة وموصوفة، في سجن رومية، تناولتها بصراحة في مقالتي الاثنين الماضي في "النهار"، واعترفت بها الجهات الرسمية المعنية، بدليل ان هناك إجراءات عقابية بدأت تتخذ، وأكد وزير الداخلية ان هناك تحقيقاً فتح في الملف. ولكن ثمة من لا يريد التوقف عند هذا الأمر، ويسعى إلى الأبعد، أي إلى إصدار قانون عفو عام، بلا شروط، لكسر هيبة الدولة وتحكيم منطق الاستقواء عليها.
"غرف العمليات" هذه تتخذ مع الأسف، مرة جديدة، طابعاً طائفياً ومذهبياً معيناً، لإحراج الدولة وجعلها ترضخ لأمر واقع يفيد من المطالب الاجتماعية المحقة ويستمد قوته من اللعب على الوتر المذهبي . ومع ان الدولة هي المسؤولة فعلاً بكل مؤسساتها وأجهزتها عن وصول الأمر إلى هذا المستوى من التأزم في سجن رومية، فان ذلك لا يسمح، في أي شكل، بتجاهل خطورة التسليم بمنطق الاستقواء، بل بثقافة التسلط على القانون والدولة والنظام. ألم نسمع مطالب وشعارات بان "الشعب يريد إسقاط النظام" من باحة سجن رومية نفسه؟
ماذا يعني ذلك، سوى إن "تمرد رومية" بات أشبه بالاعتصام المفتوح لإسقاط القانون واستبداله بصفقة فاقعة، يطلق عبرها سائر السجناء بلا شروط، وتسقط معها كل بقايا الهيبة والسلطة والنظام؟ وهل يعلم النافخون في هذه النار معنى الإجهاز على ما تبقى من الدولة، إن هم مضوا أبعد في تسليط الاستقواء وسيلة ابتزاز وهدم وتمرد؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك