قبل أقل من 24 ساعة سرت في نسيج دوائر القرار والتواصل في الاكثرية الجديدة أجواء تفاؤل فحواها أن عملية تأليف الحكومة العتيدة تمضي قدماً في طريقها المرسوم، وإن تكن الدوائر اياها تتحفظ كعادتها عن تحديد موعد زمني وشيك للولادة المنتظرة التي طالت.
مبعث هذه الأجواء التفاؤلية امران اساسيان:
الأول أن "الخطوة العامة" لمسألة تأليف الحكومة قد جرى التفاهم عليها بين الرئيس المكلف نجيب ميقاتي وبين الاكثرية الجديدة، بحيث تم الى حد بعيد مقاربة مشتركة من الطرفين للعقد الثلاث الاخيرة التي اختزلت اخيراً في ثناياها عوائق التأليف والمتصلة بمسألة تمثيل سنّة المعارضة ومسألة وزارة الداخلية وما تحجبه خلفها من تجاذبات وتعارضات تمتد ذيولها وتداعياتها الى مستقبل الوضع على الساحة المسيحية والصراع بين القوى التي تعتبر نفسها معنية بهذه الساحة، ومسألة الأحجام والتوازنات في داخل الحكومة المنتظرة وهي ما تعني بشكل او بآخر حدود العلاقة والمكانة والمرجعية بين الرئيس ميقاتي ورئيس الجمهورية من جهة، ومكونات الاكثرية الجديدة من جهة اخرى.
الثاني وهو الاكثر جدة، ان الايام القليلة الماضية شهدت تقاربا في الرؤى بين ميقاتي والاكثرية الجديدة حول ما له علاقة بمهمات الحكومة العتيدة على المستويين القريب والبعيد، وهي قضية كانت تمثل بالاصل هاجساً لدى المعنيين مباشرة بعملية استيلاد الحكومة، خصوصا بعد ظهور تعارضات بين الطرفين حول مسألة التأليف، استدعت مخاوف البعض من تكرار التجربة المرّة لحكومة الوحدة الوطنية التي أسقطتها المعارضة السابقة بالضربة القاضية في العشر الاواخر من كانون الثاني المنصرم.
ولا ريب في أن لدى الدوائر عينها قراءة أخرى للأسباب والدوافع التي جعلت ميقاتي في وضع اكثر مرونة وقابلية للتأليف، ابرزها ان الرجل بات يقيم على اقتناع فحواه أنه لم تعد له مصلحة تسجل او فوائد تجنى من ممارسة لعبة الانتظار والتأجيل، بل على العكس صار التأخير في استيلاد الحكومة عملية استنزاف لرصيد ميقاتي وحلفائه.
ويؤكد اكثر من مصدر ان الوزير محمد الصفدي، احد ابرز حلفاء ميقاتي، عبّر اخيراً عن استيائه من "النهج" الذي يعتمده ميقاتي، وقد نصحه صراحة بأنه آن الاوان لتقديم تشكيلة حكومية ترضي بالحد الاقصى حلفاءه في الاكثرية الجديدة، وتحظى في الوقت عينه بثقة الناس ويكون في مقدورها ان تحكم، واستطراداً ان تقدم تجربة حكم متميزة وجديدة.
ولم يخفِ الصفدي ان التأخير بات يحمّل المؤخِّر مسؤوليتين: الأولى اعطاء الرئيس سعد الحريري فرصة ان يكون سيّد لعبة تصريف الأعمال وسيّد "المعارضة".
والثانية مسؤولية الانكشاف الأمني والاقتصادي والسياسي والذي بلغ حد التدهور بعد خطف الاستونيين السبعة وأحداث سجن رومية.
ولا شك في ان الصفدي وسواه من الحلفاء الأقربين والثابتين لميقاتي، قد لفتوه الى اهمية تأليف الحكومة في عملية حماية "رأس لبنان" من تداعيات "التسونامات" الحاصلة في معظم البلدان العربية.
والى ذلك كله، يبدو جلياً أن ميقاتي، صاحب الحسابات الدقيقة التي يجريها عادة وسط ستار من الكتمان، قد بدأ يدرك تماما ان كل ما ابتغاه وقصده بشكل مضمر من خلال هذا التأني المتعمّد احياناً والتمهل المدروس احياناً اخرى، يوشك أن يتحقق، فهو نجح الى حد ما في ان يقنع من يعنيهم الأمر بشكل مباشر او غير مباشر بأنه لم يفرّط بحقوق مركز الرئاسة الثالثة ورمزيته الطائفية والمذهبية، وذلك من خلال اثباته:
- أنه ليس "صنيعة" اي جهة سياسية مما اسقط بشكل غير مباشر اتهامات فريق 14 آذار وتحديداً تيار "المستقبل" له في بدايات قبوله بالتكليف.
- انه ناقش وجادل الى اقصى ما يكون الجدال والنقاش بأسماء مرشحي الافرقاء للتوزير وبالحصص والاحجام على نحو فاق بدرجات ما فرض على سلفه وما اضطر هذا السلف الى قبوله اخيراً.
- انه واجه حتى حدود "المقارعة" المفترض أنهم حلفاؤه الجدد وانهم بأصوات نوابهم أتاحوا له فرصة بلوغ سدة الرئاسة الثالثة، بعدما تبدّى للجميع وكأن هذا المقعد صار حكراً على جهة معينة وفريق واحد.
- انه واجه برباطة جأش وبأسلوب يقترب من اسلوب "التقيّة" كل الهجمات الضارية للذين ناصبوه الخصومة والعداء على الساحة السنّية و"جيّشوا" ضده مواقع يحسب لها الحساب، حتى كادوا، في بعض الاحيان، ان يخرجوه من الملّة.
وعلى رغم كل هذه المعطيات والمستجدات فان ما من احد يجرؤ حتى الآن على تحديد موعد ولو تقريبياً لاصدار مراسيم التشكيل، بل ان الثابت هو ان المسألة وضعت على "السكة السليمة" المفضية الى حكومة جديدة يتعين وفق كل الحسابات والتقديرات ان ترى النور في مدى زمني معقول.
ومع كل تلك المؤشرات التشجيعية، ثمة من لا يزال يصر على الحفاظ على مساحة اكبر من التحفظ والتخوف من تأخير الولادة، او بمعنى آخر من مسألة أن تتغلب العوامل الاقليمية المتسارعة على المعطيات الايجابية الداخلية، فيكون ذلك مقدمة اخرى للتأخير.
ولا يخفي اصحاب هذه الرؤية "التحفظية" ان ميقاتي تشجع على قبول التصدي لمهمة التأليف على جسامتها وثقلها، بعدما تلقى "ايحاء" تركياً - سعودياً - قطرياً.
ولكن الجلي ان هذا "المحور" الثلاثي يكاد ينفرط عقده خصوصا في الآونة الاخيرة وبالتحديد بعد الأحداث التي شهدتها سوريا. وبمعنى أكثر وضوحاً هناك من يرى ان صراع المحاور في المنطقة يشتد ويعلو منسوبه بشكل غير مسبوق، ولعل ابرز تجلياته وتمظهراته هو الخطابات النارية المنطوية على مفردات ومصطلحات جديدة للرئيس الحريري.
وعليه، فالسؤال المطروح لدى معتنقي هذه الرؤية التحفظية: هل في مقدور ميقاتي خوض الغمار وقبول التحدي واطلاق حكومة من ابرز مهماتها المواجهة على محاور وجبهات دائرية؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك