كلُّ الأطرافِ اللبنانيين غَسّلوا أيديَهم من 13 نيسان 1975 الذي صُوِّر كأنه اعتداءٌ كتائبيٌ على حافلةِ رُكّابٍ فِلسطينيين. قد يُفيد إلغاءُ هذا التاريخِ فئاتٍ لبنانيّةً (من كل الطوائف) تَحالفت مع المنظّماتِ الفِلسطينيةِ للاستيلاءِ على الدولةِ وتغييرِ النظامِ وصيغةِ لبنان. لكنَّ الفئاتِ اللبنانيّةَ الأخرى التي قاومَت طَوالَ الحرب (وهي أيضاً من كلِّ الطوائف)، حَرِيٌّ بها أن تَفتخِرَ بأنها رَدّت وحيدةً تَحدّي ذلك اليومِ المشؤوم. وحَرِيٌّ بهذه الفئاتِ أن تُخبِرَ أبناءَها عن مَلحمةِ ذاك الصمودِ الرائع، وأن لا تَتنازلَ عن إحياءِ تلك الذِكرى الوطنية.
على وَقعِ حادثةِ "بوسطةِ عين الرمانة" انطَلقت المؤامرةُ على لبنان (الكيان، الدولة، النظام، الهوية، والدور المسيحي). احتَضَنت المؤامرةُ مشروعين، أحدُهُما يُغني عن الآخر، بل أحدُهُما يُكمِلُ الآخر. الأولُ يَقضي بانتزاعِ السلطةِ الشرعيةِ وقادتْـه الحركةُ الوطنيةُ (الأحزاب المرتبطةُ بالشيوعية الدولية)، والآخرُ يَقضي بإقامةِ دولةٍ فِلسطينية بديلةٍ على أرضِ لبنان وقادتْـه منظمةُ التحرير الفلسطينية. وفي مرحلةٍ لاحقةٍ من الحرب تَوَحّدت القيادتان تحت اسم "القوات المشترَكة".
رَعَت سوريا هذين المشروعين وشَجّعت قادةَ المجتمعِ الإسلاميِّ، لاسيما السُنّيَ منه، على تغطيتِهما (مؤتمرُ دار الإفتاء في عرمون) على أملِ أن تَدخُلَ لبنان لاحقاً فتُعوِّضَ ببقاعِه وشَمالِه عن الجولان. أغوى المشروعُ الأولُ الاتحادَ السوفياتيَّ لأنه يؤدي إلى استلامِ اليسارِ اللبناني السلطة، وأعجَبَ المشروعُ الثاني أميركا وإسرائيلَ وأوروبا والعربَ لأنه يُعفيهم من مَشَقّةِ إنشاءِ دولةٍ فِلسطينيةٍ في الضِفةِ الغربيةِ ومن عَناءِ إعادةِ الجولان إلى سوريا، خصوصاً وأنَّ الكنيست أَقرَّ مشروعَ ضَمِّ الضفةِ والجولان إلى أراضي الدولة الإسرائيلية.
وكان القاسِمُ المشترَكُ لكل هؤلاء الأطراف إضعافَ المارونيةِ السياسيةِ أو القضاءَ عليها لأنها تُجسّدُ الفكرةَ اللبنانيّةَ الاستقلاليةَ وتَمنعُ ذوبانَ لبنان وتغييرَ وجهِه المميَّز في هذا المشرِق. ولأنَّ حزبَ الكتائبِ اللبنانية كان القوّةَ المسيحيةَ الرئيسيةَ، وقَعت عليه قُرْعَةُ المؤامرةِ في 13 نيسان 1975، فاتُهم (قبل التحقيقِ الأوّلي) بإطلاقِ النارِ على رُكّابِ الحافِلةِ الفلسطينيةِ في عين الرُمّانة لإرباكِه وتعطيلِ قُدرتِه على مواجهةِ المؤامرة. وفي اليوم التالي، طالبَت الحركةُ الوطنيّةُ والمنظّماتُ الفِلسطينيةُ بعَزلِ الحزبِ وحلِّه ومقاطعةِ قيادته. فكانت المقاومة.
ورغم أن التحقيقاتِ اللبنانيةَ والفِلسطينيةَ بَرّأت حزبَ الكتائبِ من افتعالِ حادثةِ عين الرُمّانة (تصريحُ هاني الحسن في السعودية سنة 1977)، مفعولُ جريمةِ عينِ الرمانة (الحربُ على الكتائب) استمرَّ رسمياً ثماني سنواتٍ (1975/1982). وإذا احتَسَبنا الحروبَ الصامتةَ ومجازِرَ الجبلِ والاحتلالَ المقنَّعَ نَصلُ إلى ثلاثينَ سنةً من الحربِ على لبنان وعلى الكتائب (1975/2005).
لا يُستَبعَدُ أن يكونَ مَن افتعلَ حادثتَي عينِ الرُمّانة قد قرأَ (إن كان يَقرأُ) أساليبَ النازيين. ففي 27 شباط سنةَ 1933، اندلعَ حريقٌ في مَبنى البرلمان الألمانيِّ الفِدراليِّ (ريشتاغ)، فسارعَ أدولف هتلر، الذي لم يَكن استَفرَدَ بعد كلّياً بالحكمِ، إلى استغلالِه واتهامِ الحزبِ الشيوعيِّ بالعمليةِ إذ كان الحركةَ الأكثرَ تنظيماً وقُدرةً على عرقلةِ استقرارِ النظامِ النازي. وفي اليوم التالي، أصدرَ هتلر قراراً عُرفياً بِحلِّ الحزبِ الشيوعي الألماني وطردِ نوابِه من المجلسِ الفدرالي واعتقالِ مناصريه وتهجيرِ أركانه. وبعد أقلّ من شهر (23 آذار 1933)، أصدرت الحكومةُ النازيّةُ قراراً يَمنعُ التجمعاتِ والتظاهراتِ ويَسمحُ لجهازِ المخابرات (الغيستابو) بالاعتقالِ الاعتباطيِّ بدونِ مُذكّرةِ جَلبٍ قضائيّةٍ وبدونِ إعطاءِ حقِّ المراجعةِ للموقوفين. وفي مرحلة لاحقةٍ، استمالت الحكومةُ النازيّةُ بعضَ ضعفاءِ النفوسِ من الشيوعيّين ونَصّبتهم على رأسِ حزبٍ شيوعيٍّ جديدٍ مُوالٍ للحزبِ النازيِّ الحاكِم.
هذه هي الأهدافُ الحقيقةُ لحادثةِ 13 نيسان 1975. وهذا التاريخُ ليس فقط ذكرى الحربِ على لبنانَ بل ذِكرى بدءِ المقاومةِ اللبنانية، بقيادة الكتائب أولاً، من أجلِ لبنانَ سيدٍ، حرٍّ، ومستقلٍ (ومُوَحّدٍ استطراداً). لذا يُفتَرضُ، بالتالي، بمن يُحيي تلك الذِكرى اليومَ أو غداً (وهو مشكور) أن يَعترِفَ بأبعادِها التاريخيةِ والوطنيةِ فلا يَتجاهلُ المعتدين ويَدعو المُعتَدى عليهم (كلّ اللبنانيين) إلى المصالحةِ، وكأن أسبابَ الحربِ كانت داخليةً فقط، ولا علاقةَ للفِلسطينيّين والسوريين والإسرائيليّين وغيرِهم بها.
لا نسرُدُ ذلك لفتحِ الجِراحِ وإثارةِ النعرات، بل من أجل الحقيقةِ ومن أجلِ الشهداءِ وإنصافاً للّذين صَمدوا وقاوموا وانتصروا. إنَّ 13 نيسان 1975 هو معجزةُ أقليّةٍ لبنانيةٍ هَزمَت أكثريةً مُتعدّدةَ الهوّياتِ والأديان، وهو قِصةُ عينٍ واجَهت مِخرَزاً وكَسرته. إنَّ بالحقيقةِ لا بالنسيانِ تُطَهِّرُ الشعوبَ ذاكِرتَها.
إن لدى اللبنانيين نزعةً دائمةً لتناسي مآسي الماضي وطيِّ صفحاتِ الحروب كمريضٍ يَرفضُ تَذَكّرَ مرضِه أو خاطئٍ يَأبى الاعترافَ بخطاياه. وبقدر ما تَنُمُّ هذه النزعةُ عن كِبرِ نفْسٍ وطيبةِ قلبٍ ورغبةٍ في العيشِ المشترَك، فإنها تجعلُ اللبنانيين قليلي اليقظةِ وعُرضَةً لتجاربَ جديدةٍ. ومَردُّ هذه النزعةِ أنَّ اللبنانيين يَشعرون في قرارةِ أنفسِهم أن غالبيةَ الحروبِ التي اشتركوا فيها عَبر تاريخهم القديمِ والحديثِ لم تكن حروبَهم بامتياز، بل كانوا هم ضحاياها أمُنتصرين أم مُنهزمين. والحربُ التي نَشَبت عَقِبَ 13 نيسان 1975 بُرهانٌ ساطِعٌ على هذه الحقيقةِ التاريخيّة.
غير أنَّ واجبَ تصويبِ مسارِ الذكرى يَقَع على عاتقِ الذين يَحتَضِنون المسيرةَ التاريخية، مسيرة "الجبهة اللبنانية". هل تَنتظِرُون أن يَضعَ الحزبُ السوريُّ القوميُّ في الثالثِ عشرَ من نيسان 2005 أكاليلَ الزهرِ على أضرُحةِ كميل شمعون وسليمان فرنجية وبيار الجميل وبشير الجميل... وأن يَرفعَ حزبُ البعثِ العربي الاشتراكي أعلاماً لبنانيةً على أراضي تلِّ الزعتر وجسرِ الباشا والنَبعة والكرنتينا وضبيه... وأن يُنظِّمَ الحزبُ الشيوعيُّ سهراتِ الغناءِ الوطنيِّ في عينِ الرمانة والأشرفية والفياضية وسوقِ الغرب وقنات وزحله؟..وأن يَجولَ المرابطون على قبورِ الشهداءِ والشهيدات؟
أين أنتم أيها اللبنانيون المؤتَمَنون على المسيرةِ الوطنية؟ هل تَخشَون أن يُؤثِّرَ إحياؤكم ذكرى 13 نيسان 1975 على سمعتكم؟ هل تَخافون من أن تُتهَموا بالدفاعِ عن طرفٍ كرَّس نضَاله في سبيل لبنان؟ هل تَخجلون من الصلاةِ العلانيّةِ على نفوسِ شهداءٍ بُعثِرت تضحياتُهم وبُدِّدت انتصاراتُهم؟ دَعُوا الجيلَ الجديد يصنعُ مجدَ لبنان الآتي. على الأقل نَضمَنُ خُلُوَّه من موادِ الحُقدِ والجُبنِ والفَساد.
في مراحلَ معينةٍ كنا أحراراً وغيرَ مُوحَّدين، وفي مراحلَ أخرى كنا موحَّدين وغيرَ أحرار. أما اليومُ فأمامَنا فرصةُ أن نكونَ موحَّدين وأحرارً في آن معاً. هلّموا إليها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك