من الواقعي جدا أن يستغلّ كل طرف من أطراف الأزمة الحكومية الرئيس المكلف كما الأكثرية والأقلية الجديدتين، الوقت الضائع الفاصل عن تشكيل الحكومة العتيدة ليحصي أرباحه التي جَناها والخسائر التي مُني بها، وقد مرّ 83 يوما على تكليف الرئيس نجيب ميقاتي مهمة التشكيل. ذلك أن توصيف المشكلة الحقيقية التي حالت دون تشكيل الحكومة العتيدة، لا يحتاج إلى الكثير من العناء، طالما أن معظمهم يقرّ بالعقد الداخلية والخارجية التي حالَت، إلى اليوم، دون ولادة أي من المشاريع الحكومية التي اقترحها الرئيس المكلف عندما تحدّث عن حكومة أمر واقع، ولا الأكثرية الجديدة نجحت في فرض رؤيتها في تسهيل مهمة الرئيس المكلف على رغم الوعود التي أطلقتها قياداتها من اللحظة الأولى للفوز بالأكثرية النيابية، وادّعائها، بالانسجام بين مكوّناتها، أن العملية سهلة، وأنها ستعطي مثالا في طريقة حكمها البلاد بعد فشل حكومة الوحدة الوطنية في إغلاق بعض الملفات الوطنية.
على هذه الخلفيات، يمكن أن يكون لأسبوع الآلام الذي بدأ اليوم أهميته في إجراء هذه الجردة، بالنظر إلى دخول البلاد مرحلة من الجمود السياسي ستشكل فسحة أمام كل من الرئيس المكلف والأكثرية والأقلية، لتقويم المرحلة وقراءة المرحلة المقبلة والخطوات التي تكفل تحقيق برامجها.
وفي هذا الإطار يدرك الرئيس ميقاتي منذ أن كلف هذه المهمة ما يواجهه من عقبات، فهو "السني الأول" الذي كلف المهمة بعد تعطيل الموعد الأول للاستشارات النيابية التي لم تكن تلحظ له وجودا. وفي أعقاب ظهور "البزّات السود" والتهديد بالفتنة المذهبية في لبنان، فسَمّته الغالبيتان الشيعية والدرزية ومن يمثّل نصف المسيحيين وأقلية سنية. وبات عليه، منذ اللحظة الأولى، أن يسلك الطريق التي تفتح له كوّة في الطوق المضروب عليه من الداخل والخارج، ومنذ أن كان "يوم الغضب السنّي" و"الطرابلسي" تحديدا، ومن ثم ببيان الثوابت الإسلامية عن دار الفتوى، في وقت يدرك جيدا أن المجتمع الدولي والعالم الغربي من الولايات المتحدة الأميركية إلى 27 دولة في الاتحاد الأوروبي تحصي أنفاسه وتحركاته على وَقع تهمة قبوله بنتائج الانقلاب الذي شهده لبنان وترؤس "حكومة حزب الله وسوريا" في لبنان، التي قيل إنها ستلغي بروتوكولات التعاون مع المحكمة الدولية وتقطع صلات لبنان الدولية.
لذلك كله، لم يجد ميقاتي أمامه سوى التحصّن بما منحه إياه الدستور من صلاحيات في طريقة تشكيل الحكومة، وبتفاهمه العميق مع رئيس الجمهورية باعتبارهما في مركب واحد، فما يصيب أي منهما يصيب الآخر. فلجأ إلى التعاطي مع الجميع بخلفية تتجاهل الأعراف التي فرضها اتفاق الدوحة، وسلسلة التفاهمات التي انتجتها معادلات أمنية داخلية وإقليمية عطلت جوانب كثيرة مما قاله الدستور، وفي مواجهة قوى الأمر الواقع التي نجحت في تغليف انقلابها بالأشكال والمهل الدستورية والديموقراطية.
من جهتها، اعتقدت الأكثرية الجديدة أنها، وبعدما نجحت في تطيير حكومة الوحدة الوطنية، قادرة على إقصاء الرئيس سعد الحريري ليس عن السرايا فحسب، بل من المعادلة الوطنية. فأسرعت إلى خطواتها لتسمية البديل، ولما فشلت في تسمية الرئيس عمر كرامي عدديا، اضطرت مرغمة إلى القبول بتسمية ميقاتي بعملية لم تكن تخطر في بالهم عندما اختار الخارج واحدا من "أهل بيت الأكثرية" للخروج بالبلاد من مأزق كبير أطاح الحريري من رحم معادلة إقليمية ودولية أخضع لها لبنان عنوة، في مرحلة بدأ فيها مسلسل الثورات يلعب بالأنظمة العربية ويطيح الرؤوس الكبيرة واحدا بعد الآخر. لكن الأكثرية التي اعتقدت أن المسيرة سهلة، فوجئت بما لم يكن في الحسبان، فأدت التطورات في البحرين، وسوريا تحديدا بعد اليمن والسعودية، دورها السلبي على هذه الأكثرية، فاكتشفت أن وحدتها غير مضمونة وحجم التضامن في ما بين مكوناتها هَشّ للغاية، ولم يَكن الرهان على وحدة صفوفها في محلّه، فانعكست التطورات على ساحتها موجة من الاستيزار وفقدان الثقة بأشكال متعددة، وإلا ما معنى أن يصرّ احد أطرافها على تمثيل "سنة المعارضة" وآخر على "الثلث المعطل" وكأنه لا شريك له في هذه الحكومة يضمن معه النصف زائد واحدا وأكثر. أو كأنه لم يكن له رأي في تسمية رئيس الحكومة، ليكون إلى جانبه ومعه في فريق عمل حكومي واحد.
وفي لحظة ما، اكتشفت الأكثرية أنها في مواجهة الرئيس الذي سَمّته شكلا، وهو الذي ضمن حقوق وليد جنبلاط ونقولا فتوش الوزارية فقط، ذلك أن حصّة الثنائي الشيعي مضمونة في الحالات والصيغ كلها. كما في مواجهة الرئيس الذي اضطر إلى خوض معركته الشرسة مع العماد ميشال عون نيابة عن الأكثرية كلها، بعدما قبل عون أن يكون رأس الحربة في مواجهة رئيس الجمهورية، وفي إسقاط الحكومة عندما جعل الرابية منصّة لإطلاق النار في اتجاه قصر بعبدا وعلى حكومة الحريري نيابة عن المختارة وحارة حريك وعين التينة. كما وجدت هذه الأكثرية أنها في مواجهة الرئيس الذي يسعى إلى الاحتفاظ بالحَدّ الأدنى من تفهّم الخارج الدولي والغربي لمهمته ودوره، والرئيس الذي لجأ إلى الوسائل كلها لتحصين موقعه السني في مواجهة تيار "المستقبل" ودار الفتوى، وتحوّل همّه إلى الحفاظ على هيبة الموقع الثالث في الدولة وصلاحياته. وكلها أمور على ما يبدو أدّت إلى العجز في لملمة الداخل الأكثري واجتراح الصيَغ الفذة التي ترضي العماد عون ورئيس الجمهورية والرئيس المكلف في آن، فتراجعت قدراتها يوما بعد آخر، وتآكلت مصداقيتها في القدرة على تشكيل فريق عمل وزاري يكون بديلا مما سبقه وقادرا على ترجمة وعودها بالنظام الجديد.
أما الأقلية الجديدة التي خسرت مبكرا أكثريتها، تبدو وكأنها تضحك في عبّها، فبعدما استعادت جمهورها في 13 آذار تحت شعار رفض الانقلاب، ولاءاتها "لسلاح الغدر والخيانة..." وكل سلاح غير شرعي، ها هي تعطي الدروس اليومية في عجز الأكثرية الجديدة عن تشكيل حكومة أو قيادة أي مشروع بديل يبقي لبنان على الخارطة الدولية للاهتمامات، وتدلل إلى مخاوف وَضعه على لائحة الدول المارقة، في حال تراجعه عن الاتفاقات الدولية وقطع صلات لبنان بالمحكمة الدولية، هذا فضلا عن التشكيك من اليوم في قدرة الحكومة إذا قامت على معالجة الملفات المالية والإدارية وكلفة الدين العام، إلى ما هنالك من الاستحقاقات الداخلية والخارجية التي تضع لبنان في أصعب المواقع والمحاور، نظرا إلى التطورات المتلاحقة في المنطقة والعالم.
ثمّة من يراقب، ويعطي هذه القراءة بجردة الأرباح والخسائر أبعادها المنطقية والواقعية، وأخرى إضافية تتمثل بالعودة إلى أسبابها، ويقول إن الخطأ الكبير يقع على من استطاع استعادة دور فاعل للخارج في حياته السياسية الداخلية اليومية، وإن على من استدرج الخارج هذه المرة أن يتحمل التبعات والنتائج الوخيمة المترتبة عليها، فلبنان كان حتى الأمس القريب يؤدي دورا مميزا في توحيد العرب والتقريب بين الأنظمة، ولم يكن يوما قادرا على تغيير الأنظمة العربية، أو هذه الطائفة على أخرى في أي بلد عربي من المحيط إلى الخليج. فهل انتهينا من مشكلاتنا الداخلية لنصرة الآخرين والتفرّغ لحماية هذا الطرف أو ذاك؟
وعليه، لا بد من الإشارة إلى الحصيلة المتوقعة لهذه القراءة والمعادلات الجديدة التي تقود المرحلة الراهنة، على الأقل بأبعادها الداخلية، وطالما أن لا قدرة لأي فريق لبناني على تعديل ما يجري في الخارج، سواء انعكس علينا سلبا أم إيجابا، فإن الحصيلة ما زالت غامضة، وفيها ما لا يدل على القدرة على ضمان أي سيناريو متوقع على آخر، فتبقى البلاد مشرّعة على العديد منها، وسط الكثير من الأسئلة التي يمكن طرحها ومنها:
- هل سيكون بقدرة هذه الأكثرية تجاوز ما لديها من حساسيات مبطّنة بين حلفائها القدامى والجدد وحلفاء الحلفاء، والتي جعلت بعضهم يتبرّأ من مواقف بعضهم الآخر في منتصف الطريق ويدس عليه الدسائس هنا وهناك؟ وهل لديها القدرة على استعادة الحد الأدنى من التفاهمات على مهام هذه الحكومة العتيدة ودورها وشكلها؟
-هل سينجح الرئيس المكلف في عبور حقل الألغام المحلية والإقليمية، والنفاذ بحكومة قادرة أن تحكم بما يرضي الناس ويعيد اليهم الثقة بدولتهم وبقياداتهم وقدرتهم على محاكاة أولويّات الناس؟
- هل ستنجح الأقلية الجديدة في ممارسة الأصول التي وضعتها منذ اليوم في موقع المعارضة في تشكيل البديل عن السلوك الذي سيقود عمل الحكومة الجديدة عند تشكيلها وإعطاء النموذج الذي يعيدها أكثرية عند أول استحقاق دستوري؟
وبعيدا من هذه الأسئلة التي تحتاج الأجوبة عنها إلى انتظار مواعيد استحقاقها، يبقى سؤال تفرضه الظروف المحيطة بورشة تشكيل الحكومة الجديدة ويقول من سينتصر على الآخر، وهل إن الرئيس المكلف سيصل إلى ما يريده رئيسا لحكومة تحكم ولا تحكم، أو أن الأكثرية الجديدة ستفرض عليه تشكيلة لا يستطيع إلا أن يرأسها؟ وهل سيكون البديل الناجح من الرئيس الحريري؟ أم إنه سيسقط في التجربة التي قدرها بعضهم فيكون أولى الضحايا فيعتذر؟ أو يشكّل ليكون رئيسا لحكومة قصيرة المدى تنتهي بانتهاء المخاض الذي تعيشه المنطقة؟ أو تسقط عند اول استحقاق يقال انه سيكون القرار الظني بداية الصيف المقبل؟ فتصدق النظرية التي تقول إن الرئيس ميقاتي هو وحده المتخصص بأعمار الحكومات القصيرة المدى؟!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك