عاد التوتر بين إسرائيل وغزة إلى التصاعد. وقد ذهب ضحية هذا التوتر حتى اليوم زهاء العشرين فلسطينيا، دونما إصابات في الجانب الإسرائيلي. ويبدو الفلسطينيون مرهقين، وغير راغبين في التحدي، وإنما يتصرفون كأنما هم مسحورون أو مقودون بالقوة لإطلاق النار. وفي الجهة المقابلة؛ فإن الإسرائيليين الذين يبحثون عن الاشتباك في العادة ليثبتوا تفوقهم، أو ليجربوا أسلحتهم الجديدة، يبدون غير راغبين في القتال، وإنما يخشون في الوقت نفسه أن يتجرأ عليهم الفلسطينيون أكثر إن لم يبادروا للرد على الصواريخ والمدفعية. ويهجم سعد الحريري في لبنان على حزب الله، طالبا منه التوقف عن شهر السلاح في وجوه اللبنانيين، ووضعه تحت سيطرة الدولة، كما يهاجم المحور الإيراني الذي ينتمي إليه الحزب، والذي يتهمه أيضا بمحاولة تحويل البحرين إلى محمية. ويرد الأمين العام لحزب الله بشكل هادئ، ذاهبا، وبصوت هادئ أيضا، إلى أن الهجوم على الجمهورية الإسلامية خطأ كبير، لكنه ينسب هذا «الخطأ» إلى الفشل الذي عانت منه جبهة 14 آذار التي ينتمي إليها سعد الحريري على طول الخط، والسنوات الماضية.
وهكذا فإن «هياج» حزب الله المشهود على مدى السنوات الماضية قد خمد فجأة وكأنما أصابه «تعب المعادن» بعد أن كان يبحث عن الاشتباك بالخارج والداخل. ويصر زعماء الأحزاب السياسية السودانية على التشهير بالنظام في بلادهم، ويتهمونه بتضييع الجنوب، ومشكلة دارفور، والديكتاتورية، وسوء التصرف والفساد. ويقولون إنهم يريدون إسقاطه، إنما بالسلم. ويرد عليهم سياسيو النظام بأنهم لا يستطيعون شيئا وإنما هم فاشلون في الانتخابات، والشعب مع النظام وليس مع الأحزاب، وإلا فأين هي المظاهرات الضخمة التي يهددون بها؟ وقد جرى تبادل التصريحات النارية بين إيران وأعضاء مجلس التعاون الخليجي على خلفية تدخل درع الجزيرة في البحرين. ثم بدأت أصوات ترتفع من الجانبين، تدعو للحوار والوصول إلى حلول تفاوضية للمشكلات، فلا أحد يريد تصعيد التوتر، وإيران الباحثة عن أهداف للهجوم في العادة لا تبدو في «مزاج» هجومي الآن! وهكذا فإن إسرائيل وإيران تبدوان في «زمن الثورات» العربية في حالة سكون أو تردد قلق. ويظهر الأميركيون والأوروبيون (بعد الحماس الأول) في إعراض مشهود، وتنفرد تركيا، وكأنما حان بالنسبة لها زمن القطاف!
عرفت إسرائيل ازدهارا منقطع النظير في حقبة الرئيس بوش الابن والمحافظين الجدد. وأقبلت على شن الحروب لأتفه الأسباب. بينما مات الرئيس عرفات، وانقسم الفلسطينيون وتحطمت جبهتهم، وحافظ المصريون والأردنيون على السلم تبعا للاتفاقيات. وعلى أثر حرب عام 2006 جاء الجيش اللبناني إلى الحدود مع إسرائيل، وازدادت القوات الدولية عددا وعدة. ومنذ عام 1974، ما أطلقت طلقة على إسرائيل من الحدود السورية. وفي سنتين ونيف عجز أوباما عن إقناع الإسرائيليين بأي صيغة للتفاوض المعقول مع الفلسطينيين. وهكذا فقد كانت إسرائيل في حالة اكتفاء أو إشباع، لا تفتقر معهما إلى الحرب أو السلام! وقد انقلبت الحالة الآن. فبسبب تغيير النظام في مصر، والاضطراب في سورية والأردن، ما عادت الجبهات آمنة، وتوشك بيئة جديدة على الظهور في العالم العربي، ما عرفتها إسرائيل منذ ثلاثة عقود ونيف. أما الذي يطمئن بعض الشيء بالنسبة لها، فهو ارتباك خصومها، مثل إيران وحزب الله، أو عدم ميلهم إلى إحداث المشكلات الآن، والروح الانكفائية التي تتميز بها الثورات العربية حتى الآن أيضا.
ومن المؤكد أن التونسيين ما تدخلوا بمصر، ولا تدخل المصريون بليبيا وباليمن أو بسورية. لكنها المشكلات الواحدة لدى الأقطار العربية، هي التي دفعت لهذا التداعي الذي يتميز بالاتصال. والتخوف الآخر الذي كان يمكن أن يحدث لإسرائيل، هو اتجاه الفلسطينيين للتوحد في مواجهتها في الزمن الثوري العربي. وهو أمر ما حدث ولن يحدث، حتى عندما «هجم» أبو مازن على حماس في مبادرة للمصالحة والعناق. فقد قال الحماسيون أولا إن الخلافات في العمق، بحيث يحتاج الأمر إلى تفاوض طويل عريض، ثم ذهبوا فجأة إلى عكس ذلك، فقالوا: لا نريد أن يجيء أبو مازن إلى غزة للتفاوض، بل لتوقيع الاتفاق! وبذلك فإن حماس لا تزال ترى - على الرغم من الثورات من حولها أو بسببها - أن الوقت هو وقت «تكوين السلطات»، وما دام أشقاؤها من الإخوان المسلمين سيحصلون على أشياء وأشياء في مصر وربما في الأردن وسورية، فلا أقل من أن تصر على الانقسام، حتى يهدأ الثوران، ويبدأ توزيع الغنائم. واستنادا إلى هذا التحليل، فقد كان هناك من علل البدء في إطلاق الصواريخ بعد عرض أبو مازن هو أنه لمنعه من المجيء أو جعله يتردد. لكن كان هناك أيضا من قال إن إيران ربما تكون وراء ذلك هي وسورية، لأن الذين أطلقوا الصواريخ لأيام كانوا من تنظيم الجهاد الإسلامي المعروف الميول، وربما كان المقصود إزعاج إسرائيل لكي ترد ردا قاسيا، يغير الموضوع، ويصرف الناس عن الثوران!
والانكفائية الثورية العربية والأخرى الإسرائيلية، لا تبعد كثيرا عن الحالة الإيرانية. فقد حقق الإيرانيون في العقد الأخير اختراقات استراتيجية في كل من العراق وفلسطين. وهذا فضلا عن الاختراقات الآيديولوجية و«الاعصيصاب» في المجموعات الشيعية في البلاد العربية، والاستتباع لحركات الإسلام السياسي السنية. ولذا فعندما قامت الثورات العربية، أصر الإيرانيون على أنها إنما تحصل بوحي منهم، وأنها إنما تقود لأنظمة حكم إسلامية! ثم بدأت تحركات التذمر ضد المالكي، رجلهم في العراق، والاضطرابات الدامية ضد حليفهم السوري، وهجم أبو مازن هجوما وديا تجاه حليفهم الحماسي. وعادت إسرائيل تهدد بأن أي حركة ضدها سوف تقود إلى حرب مثل حرب 2006 أو حرب غزة. وتدخل مجلس التعاون الخليجي في البحرين، واتهم أعضاؤه إيران بأنها تتدخل في الشؤون الداخلية للجزيرة، وتريد تحويلها إلى محمية إيرانية. واكتفى الإيرانيون (وحزب الله) تجاه ذلك كله، بالاحتجاجات الدفاعية، ويقال إنهم خشوا على النظام السوري، وعلى الشيعة في العالم العربي.
وقال معارض إيراني ساخرا: إن الرئيس الإيراني مصر على أن النظام في بلاده مختلف تماما عن الأنظمة المتهاوية في العالم العربي. وهذا هو الأمر نفسه الذي قاله الرئيس السوري لصحيفة «وول ستريت جورنال» قبل الاضطرابات في بلاده بشهر واحد. ولا ينبغي أن نتجاهل في رد فعل نصر الله الهادئ ثلاثة عوامل: اليقظة السنية، والحساسية تجاه الوضع بسورية، والخشية من مفاجأة إسرائيلية. فقد أصر نصر الله طوال السنوات الماضية، على أنه لا مشكلة بين السنة والشيعة، بل إنه الممثل الحقيقي للسنة، لأنه يحمل راية الكفاح ضد العدو الصهيوني. ولم يأبه لأحد عندما دخل إلى بيروت بالسلاح عام 2008، مظهرا التشفي (هو والرئيس الأسد) من عدم حصول «فتنة» سنية - شيعية.
وعلى الرغم من أن اليقظة العربية الحالية مدنية شاملة، ويشارك فيها الإخوان المسلمون وهم حلفاء حزب الله وإيران؛ فإن الذي حصل أن الهتافات في درعا في أوائل أيام الثوران هناك ظهر فيها شعار: لا إيران ولا حزب الله، بدنا مسلم يخاف الله! وهذا إضافة لشعارات أخرى ومظاهر في عدة بلدان منها مصر ومنها الكويت. فما عاد بذلك ممكنا التجاهل، وافتراض السواد والسيطرة، خاصة أن عرش الحليف الأقرب ما عاد آمنا، وأن المعارضة الإيرانية شكلت وتشكل تحديا حقيقيا للنظام هناك، الذي تصدعت شرعيته الثورية وغير الثورية، ويضاف لذلك هذا التزعزع في السيطرة على العراق، وهو أمر أسوأ من التزعزع في سورية، لأن الأكثرية بالعراق شيعية، ولأن الثائرين على المالكي من الشيعة. على أن العامل السني وإن لم يكن سائدا في الحركة السورية؛ فهو واضح، ولا ينبغي إثارته أكثر.
لذا ما ذكر نصر الله سورية بكلمة واحدة في خطابه الأخير. ولا يحتاج الأمر إلى تغيير النظام هناك لكي يتضرر حزب الله. بل يكفي أن تتغير السياسات فتضيع جهود عقود بالنسبة لإيران وحزب الله وحلفائهما الآخرين. ويبقى أخيرا اعتبار المفاجأة الإسرائيلية. فلو أن إسرائيل هاجمت حزب الله، لأتى ذلك في وقت غير ملائم للحزب من عدة وجوه.. ونصف اللبنانيين يعلنون الخروج على الحزب وسلاحه. إنما المرجح كما سبق القول أن لا تقوم إسرائيل بأي هجوم الآن، لأنها لا تريد لفت أنظار شباب الثورات الذين قد يحولون عواطفهم ضدها، ولأنها لا تريد أن تحرج النظامين المصري والأردني (الشديدي الحساسية الآن) فيضطران إلى إجراء بالنسبة للعلاقات مع إسرائيل.
إن كل هذه «الانكفاءات» والاكتفاءات، تخالف السلوك التركي مخالفة تامة. فالأتراك صارعوا فرنسا من أجل أن تكون لهم اليد الطولى في الحل بليبيا. وهم يتدخلون علنا لإنقاذ النظام السوري. وهذا الأمر لا علاقة له بمبدأ: «صفر مشكلات» الذي اشترعه وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، إذ إن تركيا تدخل الآن في المشكلات في كل مكان. وهي تستفيد من التوجس الإيراني المتردد، ومن الزهد الغربي، تجنبا للدماء والمشكلات، لتحصل في النهاية على مواقع نفوذ ثابتة من جهة، وعلى كلمة وازنة في مصائر المنطقة من جهة ثانية.
أما الثائرون أنفسهم، فيبدون مهجوسين بالدواخل وبالحكام والسلطات فقط، ويرحبون في الغالب بالتدخل الخارجي إذا اعتقدوا أنه لصالحهم! لكنهم ذوو حساسية فائقة ضد التدخلين الإيراني والتركي، للخوف من إثارة الفتن، والخوف من أنهم يدعمون بقاء الأنظمة من جهة، ويريدون إدخال الإخوان المسلمين في الأنظمة الجديدة، من جهة ثانية.
في زمن الثورة هذا، يبدو الاضطراب سائرا إلى ما لا نهاية. ويبدو العالم العربي كله معرضا بسبب تعطل النظام العربي، باستثناء دائرة الخليج، التي تحاول حفظ تماسكها، والاستمرار في الدفاع عن القضايا الكبرى، والمرجو أن يكون الغد يوما آخر!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك