ما زالت التنازلات التي يقدّمها النظام السوري بعيدة عن الحدّ الأدنى المطلوب من الشارع. فهي من نوع العمليّات التجميليّة التي يراد منها تجنيب النظام الكأس المصريّة أو التونسيّة، وليست من العمليّات التي تحقّق تغييراً حقيقياً في بنية النظام، والتي تفتح أفقاً جديداً للعلاقة بين الدولة والمواطن. وحين تكون التنازلات من هذا النوع، لا بدّ من استدعاء نظريّة المؤامرات الخارجيّة. وما دامت المؤامرة موجودة، فلا بدّ من إطلاق النار عليها. هكذا، لم يصمد التعاطي السلمي مع التظاهرات أكثر من يوم واحد. أمّا الذين سقطوا برصاص القمع، فأُعطوا لقب «شهداء»، من دون كلمة اعتذار واحدة، ومن دون أن يحول ذلك دون سقوط ضحايا جدد ربّما يعود النظام ويكرّمهم عبر منحهم وسام الشهادة.
والواقع أنّ كثيراً من الأنظمة لجأت إلى «المؤامرة» لحماية نفسها. لكنّها كانت تعرف كيف تختار أعداءها. أمّا استدعاء التحريض «المستقبلي»، فليس ممّا يقوّي صورة النظام أمام شعبه. فحزبٌ حكم سوريا أربعة عقود لا يمكنه إقناع شعبه بأنّه مهدّد من خطر يمثّله حزب لبناني خسر السلطة في بلده. قد يكون الحريري حرّض الولايات المتّحدة على النظام في سوريا، وقد يكون هو وعدد من نوّابه على علاقة وثيقة بعبد الحليم خدّام أو سواه، لكنّ ذلك يبقى على هامش الهامش في ما يجري حالياً في سوريا.
فالناس الذين يخرجون إلى الشوارع، ويسقطون فيها شهداء بصمت وعزيمة، لا يعرفون أروقة السفارات، ولا معارضة منظّمة تجمعهم أصلاً. منهم مَن يريد إخراج الطبقة الوسطى من قمقمها، ومنهم مَن خرج مِن المناطق الأشدّ فقراً في سوريا، مِن الذين سُلبوا كلّ شيء، وها هم يرفضون أن يُسلَبوا ما بقي من كراماتهم. يغامرون بحياتهم وهم لا يملكون إلا قيودهم كي يخسروها. ما يريدونه حقاً هو أن يشعروا بأنّ الطرقات التي يسيرون عليها هي طرقاتهم، وأنّ الأوجاع المدفونة في صدورهم يمكنها أن تخرج إلى الهواء الطلق.
الإصلاح في سوريا يعني أمراً واحداً: أن يمتلك النظام شجاعة المتظاهرين في وجهه. والشجاعة لا تعني الضغط على الزناد، بل تعني دفن أعوام القهر في حفرة لا قاع لها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك