ين يقف نجيب ميقاتي بعد 85 يوماً على تكليفه، وما الذي يمنع ولادة حكومته حتى الآن؟
ربما يكون ميقاتي الأقدر على الإجابة باعتباره المعني الأول بالسؤال وبحركة التأليف، خاصة أن كلاماً كثيراً يصدر من مطارح عدة، بينها محيطه المدافع عنه وبأنه يبذل ما بوسعه، ومن ناصحين يشركونه في مسؤولية التأخير، ومن سياسيين يرون فيه مماطلا بامتياز، ومن كامنين له مراهنين على سقوطه، ومن «مكيودين» ظنوا رئاسة الحكومة ملكاً دائماً لن يؤول لغيرهم كما آل اليهم.
منذ اليوم للتكليف، أرسى ميقاتي قاعدة «السرعة لا التسرّع»، وتدرّجت تلك الحركة حتى إعلانه من القصر الجمهوري في الأسبوع الماضي، عن المهلة الجديدة لإجراء مزيد من المشاورات لعلها تنتشل الحكومة من كومة التعقيدات العالقة فيها، فقد أراد من تلك المهلة أن يتحمّل معه اللبنانيون بعض الوقت، مع إدراكه ان الوقت بات يمر ثقيلا عليهم كما عليه شخصياً. وعلى الرغم من ذلك، لا يبدو ميقاتي مقيداً بمهلة معينة انطلاقاً من قرار اتخذه بقبوله التكليف وتحمل المسؤولية بكل مترتباتها، وبالتالي هو يتحرّك الآن على قاعدة انه سيشكل الحكومة في نهاية المطاف، إن لم يكن عاجلاً فآجلاً، ولا مجال للتراجع عن اصراره على التأليف الا في حالة وحيدة، اي عندما يجد نفسه انه اصبح سبباً للفتنة ولعدم الاستقرار وللإطاحة بالدستور، وانه مكبل اليدين وغير قادر على فعل أي شيء، وفي المقابل، فطالما يرى نفسه عنواناً لإسقاط مشروع الفتنة بين السنة والشيعة من جهة وبين السنة والسنة من جهة ثانية، وعاملا لتثبيت الاستقرار والسلام الاهلي في لبنان وحافظاً على الأصول الدستورية، فهو مستمر الى الآخر. وهناك في محيطه من يذكـِّر كم كان حجم الاحتقان المذهبي كبيراً قبل تكليفه وكم تراجع بعد التكليف فما أبعد اليوم عن الأمس، «وهذا يعد انجازاً لميقاتي».
قيل الكثير عن تعرض الرئيس ميقاتي لضغوط خارجية وتهديدات لمصالحه في الخارج، لكن لم تبرز من جانبه اية تأكيدات جازمة بحصولها، لا بل نفي لها، سواء من دمشق التي لا تمارس هذا الدور وان كان كثيرون طالبوها بالتدخل ورفضت، او من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي لم تصدر عنها اية اشارات «ربما لأن ليس لميقاتي اي استثمار في اميركا» (يقول إنه يمتلك هناك بناية لا يتعدى سعرها الثلاثين مليون دولار). الا ان هذا لا يحجب ما يوصف بـ«المطاردة اليومية» التي يتعرّض لها من قبل من تضرروا من وصوله الى رئاسة الحكومة، إن برسائل نصية عبر الهواتف الخلوية وبشكل شبه يومي، تروّج لعجزه عن تشكيل الحكومة وانه لن يجد امامه سوى الاعتذار في نهاية المطاف، او بمحاولة استفزازه بالتشكيك بموقفه الوطني وبتوجهه السياسي وبانتمائه المذهبي وبقدرته على الإمساك بالأمور وتنسب اليه عجزه «امام واقع اكبر منه».. وهناك من رأى ان المقصود بالواقع الأكبر منه تلك التركة الثقيلة والرهيبة التي خلّفها حكم السنوات الخمس الأخيرة. وهناك من يقول للتاريخ «في العام 2005 كانت الامور أحسن الف مرة مما هي الآن».
وللعلم فإن تلك المطاردة يتعرّض لها ميقاتي منذ لحظة تكليفه، وكان الكلام يفعل فعله لديه، ولكنه لم يتصور يوماً ان الأمور ستصل الى هذا المستوى من التهجم الشخصي والاتهام بالخيانة الوطنية وبالانقلاب على مذهبه، ولكن رغم ذلك لم يظهر مكنونه ولم يذهب الى حيث حاول الآخرون ان يستدرجوه اليه، وفاجأهم ببرودة اعصابه وبتمثـّله بـ«ابو الهول» وقوله: لا تستفزوني ولا تبتزوني فأنا باق ولن أتراجع ولن أعتذر».
هناك من أخذ على الميقاتي انه حاول ان يفرض حكومة امر واقع، ولكن هناك من يقول ايضا انه ارادها فعلاً، فهل كان ليتشاور حولها مع كل الفرقاء، كان القصد واضحاً من محاولته تحفيز الآخرين على حسم امورهم وخياراتهم وقراراتهم. والحكومة التي يريدها حددها كفريق عمل متجانس متوافق، واما سقفها فموضوعي لا يصل الى حد اعتبارها حكومة يقع على عاتقها اصلاح كل ما افسده الدهر، على ان احداً لا يستطيع ان يتكهن بولادة هذه الحكومة او التورط بتحديد موعد ولو تقريبي، لكن العنوان الذي يظلل حركة ميقاتي على خط التأليف هو «تدوير الزوايا» خاصة ان هناك افكاراً جديدة طرحت وتبدو صالحة لتقريب وجهات النظر، لكن المشاورات لم تصل الى نتيجة نهائية بعد، ذاك ان ما تم تحقيقه حتى الآن هو قطع أكثر من نصف المسافة المطلوبة للتأليف بقليل، واما ما تبقى من المسافة فلا يبدو شائكاً بل قابل للحلحلة، خاصة انه يشمل اموراً تفصيلية قيد المعالجة.
الا ان وزارة الداخلية تبقى الأمر الوحيد الشائك، ومكمن التعقيد فيها هو ان ما يتحكم بحركة الاتصالات والافكار التي تطرح حيالها هو عنوان رئيسي يؤيده رئيس الجمهورية وقد لا يعارضه ميقاتي خلاصته «لا لإسناد الداخلية الى طرف» خاصة أن اولى اولويات الحكومة الميقاتية هو إعداد قانون جديد للانتخابات، فأي قانون انتخابي سيصدر اذا ما كان طرف بعينه على رأس الداخلية، ولنفرض ان الظروف قد تحول من دون اعداد قانون انتخابي، واستمرت هذه الحكومة حتى الانتخابات المقبلة، فمن يقبل بها اذا ما كان مدير الانتخابات وزير داخلية ينتمي الى طرف سياسي مشارك بمرشحين فيها. وبالتالي فإن اكثر الاقتراحات مقبولية ان تسند الى شخصية واقية معتدلة قريبة من الجميع... فهل تنطبق تلك المواصفات على زياد بارود؟
ولعل أكثر ما يحاول ميقاتي الهرب منه هو الا تتحوّل الحكومة الى تركيبة «فيديرالية مقنعة» خاصة أن هناك من بات يأخذ على التأليف انه نتيجة الحرب الدائرة على الحقائب اصبح يشبه توزيع التركات وحصر الإرث.. ولعل ابلغ رسالة اراد ايصالها الى من يعنيه الامر هو التزام منطوق الدستور وما تمليه الصلاحيات جملة وتفصيلاً، والحكومة لا تعلن لا من فردان، ولا من الرابية ولا من الضاحية ولا من اي مكان آخر، بل من القصر الجمهوري حصراً.
على مدى اشهر التكليف الثلاثة الا خمسة ايام، استطاع ميقاتي ان يثبت حضوره في شارعه على رغم حساسية هذا الشارع والاصطفاف الموجود، والفارق شاسع ما بين اجتماعي المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في دار الفتوى، وبرغم كل التحريض لم يشكل حالة منفرة حتى داخل جمهور تيار المستقبل، خاصة انه ليس آتياً لضرب الحريرية، وهي التهمة التي الصقت به وصنفته شريكاً في اسقاط سعد الحريري وانهاء عصره.
وقد لا يقف ميقاتي كثيراً عند الهجوم عليه من قبل «14 آذار»، فهذا امر طبيعي ناجم عن الموقف السياسي الذي نحا اليه هذا الفريق في ظل الظروف الجديدة، ولكنه قد لا يبلع ان تشارك بعض اوساط «8 آذار» في الهجوم عليه، وهناك الكثير مما يتناهى اليه عما يقال ضده في السر والعلن. قد تكون خلف هجوم البعض في 8 آذار اعتبارات متصلة بالتأليف وغايتها الاشراك في الحكومة، ولكن هناك في الجانب الآخر من استفزه كلام ميقاتي حينما اكد على الثوابت، واولها انه ليس آتياً لطعن المقاومة وهل هناك شطارة في طعن المقاومة؟.. وهل هناك شطارة في ادخال البلد في سياسة المحاور؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك