الحكم ملح الأرض. والشعوب مثل الأرض، لا حياة لها من دون هذا الحكم – الملح. والحكم يعني، في بديهيّاته، الدولة والمؤسّسات وسلطة القوانين، امتداداً الى الأعراف حتى التقاليد.
بالمختصر المفيد، ووفقاً للرئيس فؤاد شهاب، الحكم هو "الكتاب". لا الكتاب المدرسي، بل كتاب الجمهوريَّة الذي يحمل اسم الدستور. في احدى أمسيات خريف 1959 كنت بصحبة الزميلين العزيزين أنسي الحاج وسمير عطاالله مارّين قبالة مقهى لاروندا في ساحة البرج، نتحدَّث عن النساء والشعر والصحافة.
فجأة، نادانا شرطي من بعيد: قفوا مطرحكم، وقفنا ونحن نتطلع بعضنا الى بعض متسائلين. لما اقترب منا حرص على ان يؤدي التحيّة بعدما خبط قدمه في الأرض.
خير؟ قال: الهويات من فضلكم. أعطيناه ما طلب. سحب دفتره ودوَّن. ليرة من كل واحد من فضلكم. سألناه شو القصة؟ قال تطلعوا الى الأرض تعرفوا... لقد تجاوزتم ممر المسامير المخصص للمشاة. كانت الليرة عزيزة في ذلك الحين، إلا اننا دفعناها.
قصة ثانية من زمن دولة القانون والمؤسسات. كل منطقة القلع في قضاء الكورة كان يديرها مخفر ضهر العين المؤلَّف من رقيب وعريف ودركي. كان كل شيء مثل الساعة. إرم الابرة في ددّة تسمع رنَّتها في بترومين. صودف أن اقتلع عاملان في ورشة الوالد صنوبرة قديمة... بلا رخصة مسبقة. فحضر الدرك فجأة، واقتادوا العمال الى المخفر حيث تمّ اجراء المقتضى...
ضيَّعنا ذلك الزمن وتلك الدولة وهاتيك الأخلاق، واولئك الرجال الذين يسهرون على تطبيق القانون، ولو بسبب اقتلاع صنوبرة.
فأين كنا وأين صرنا. كيف كانت الدولة والقوانين والسلطات، وكيف هي اليوم. كيف كان اللبنانيّون مضرب مثل في الانضباط واحترام القوانين، وكيف صاروا اليوم يفشخون فوق الدولة والسلطات والقوانين، ليستولوا في وضح النهار على الأملاك العامة، والمشاعات، والأوقاف، وحتى أملاك الغير.
لقد توفيت دولة القانون، ودولة الكتاب، ودولة الرخصة، ودولة المرور بين المسامير. ودفنت تحت انقاض ذلك اللبنان المغيب.
وليس من أمس، وليس في الجنوب وحده أو الضاحية وحدها. وليس على صعيد الأملاك البحرية دون البريّة. وليس حيث الكسارات والمرامل والأحراج التي تحترق، بل في كل شيء. وفي كل لبنان. في اليومين الأخيرين حصلت مواجهات وصدامات مسلَّحة، من الجنوب الى الضاحية. وسقط قتلى وجرحى.
قيادات في "حزب الله" و"أمل" ضاقت ذرعاً بالاعتداءات على الأملاك العامة... وسكوت الدولة عن هذه التجاوزات، فلبت الدولة النداء. وذهبت قوى الأمن لمعالجة الوضع، فماذا كانت النتيجة؟ واين غابت القيادات والمرجعيات؟
هذا الوضع الشاذ جداً، والمؤذي، بل المدمّر جداً، لا يجوز السكوت عنه بعد اليوم. والكلام موجَّه الى المعنيين المباشرين.
إلا اذا كانت ضجة الاستنكارات مجرَّد تغطية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك