لم تتجلَّ ديكتاتورية الصيغة اللبنانية يوماً بشكل مباشر كما هو الحال بالنسبة للأنظمة العربية المحيطة. لطالما نجح «السيستم» اللبناني بالظهور ببهرجة ديموقراطية تخفي جوهره المقيت. ولطالما كانت ديكتاتوريته ذكية بما يكفي لإخفاء ملامحها الحقيقية.
ديموقراطية النظام اللبناني وهمٌ مدوّن في الدستور وتتناقله وسائل الإعلام والألسن. وهو وهمٌ لم يتبقَّ منه اليوم سوى المدماك الأخير، المتمثل بحرية تعبيرٍ نسبية ومشروطة بعدم التهجم على الزعيم أو القوة السياسية المهيمنة في هذه المنطقة أو تلك.
ولطالما نجح النظام اللبناني بتفريق رعايا الدولة اللبنانية على قضايا تبدو مصيرية في ظاهرها، الأمر الذي مكّن السلطة من الاستمرار لعقود برجالاتها أو ورَثتهم، مع بعض المنتسبين الجدد إليها في حقبات مختلفة، تبعاً للظروف السياسية والاقتصادية المحلية والإقليمية. فالنظام اللبناني يستمر من خلال «الوحدة المتناقضة»، ما يعطيه القوة والمطواعية والقدرة على احتواء أي انتفاضة شعبية أو نقابية، ليس من خلال قمعها أو كسرها، إنما من خلال ابتلاعها داخل «السيستم» نفسه، فتضيع في متاهاته.
غير أن الشقاء المادي والضغط الاقتصادي غير المسبوق الذي يعيشه اللبنانيون، ضاءل من فعالية الخطاب السياسي للنظام اللبناني، وبالتالي أضعف من قدرته على تجييش الشعب وتقسيمه حول قضايا سياسية «كبرى»، لتحويل نظره عن حقوقه الاجتماعية والاقتصادية. فالضغط الاقتصادي أمسى مسألة ملحّة، إلى حدّ جعل الكثيرين، بخاصة من أفراد الطبقة الاجتماعية الفقيرة، يقابلون الخطاب السياسي الكلاسيكي السائد لقوى النظام اللبناني بشيء من الفتور وعدم الاكتراث. وقوى النظام اللبناني لا ريب تلمّست هذا الأمر. وما عملية التمديد إلا من تجليات هذا التلمس مهما بلغت متانة المسوغات السياسية والأمنية التي بررتها. فلعلّ قوى السلطة في لبنان تعرف أن نسبة المقترعين في أي انتخابات ستكون منخفضة بغض النظر عن شكل القانون الانتخابي، وأن نسبة الأوراق البيض قد ترتفع، فضلاً عن حيازة مرشحين من خارج نادي السلطة على أصوات، قد تفوق ما يمكن لـ «السيستم» اللبناني والقوى التي يتكوّن منها تحمّله. كل هذه العوامل مجتمعة قد تقوي من إحساس اللبنانيين ووعيهم بمصالحهم ومتطلباتهم الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يصعب على قوى النظام اللبناني أن تتقبله بطبيعة الحال.
إن هذه التحديات التي يعيشها النظام اللبناني حتمت عليه اليوم أن يتجه إلى وضع أكثر شبهاً وتماهياً مع الديكتاتوريات الصريحة، وإن لفترة موقتة بانتظار المستجدات الاقليمية والدولية. فما هي أهم ملامح أو تجليات هذه الديكتاتورية الصريحة؟
أولاً: الاتفاق على المسائل الأساسية. قد يُخيّل للمتابع أن الخلافات السياسية بين القوى المحلية مصيرية تماماً، أو عميقة وجذرية حتى النخاع. على أن المسائل «المصيرية» و «الجذرية» تُقدّم على أنها كذلك في المنابر والإعلام، لإبقاء الشارع منقسماً على ذاته ومستنفراً. فما يجمع قوى النظام اللبناني أقوى من الخلافات بينها، تجمعهم شبكة المصالح الاقتصادية والكسارات والأملاك البحرية والفساد في الوزارات وسرقة أموال الدولة، وتجمعهم خطط اقتسام النفط الموعود الذي يبني عليه اللبنانيون آمالاً كبيرة للخلاص من شقائهم الاقتصادي. علماً أن قدر هذه الآمال أن يبتلعها لاحقاً حيتان المال والسياسة، فلا يتبقى منها شيء.
ثانياً: تدمير النقابات. لقد عمد النظام اللبناني خلال العقدين الماضيين إلى تفتيت النقابات وإفراغها من محتواها. غير أن التحرك النقابي الأخير الذي قامت به «هيئة التنسيق النقابية» وصمدت فيه بوجه السلطة لفترة طويلة، دق ناقوس خطرٍ أمام قوى النظام القائم، ما جعلها تتحد بشكل فاضح وغير مسبوق. وقد شكلت معركة النظام ضد تحرك «هيئة التنسيق» إحدى المعارك التي جيش النظام اللبناني كل أسلحته وقواه لاحتوائها أثناء الانتخابات النقابية الأخيرة. إن تدمير العمل النقابي، حتى وإن جرى بممارسة ديموقراطية في ظاهرها، هو من سمات الأنظمة التي تعتمد القمع المباشر أسلوباً للحكم.
ثالثاً: البروباغندا. لم يشهد تاريخ الحكومات اللبنانية هذا المستوى من الدعاية التي تقوم بها الوزارات للترويج لأعمالها. وهذه البروباغندا تشبه كثيراً ما تقوم به حكومات الأنظمة القمعية التي تجهد لتعميق الوهم وتجذيره في النفوس، وللإيحاء بأنها تقوم بواجبها. إن بقاء قوى سياسية لفترة طويلة يحتاج دائماً إلى نسج مسوغات تبرر «الحاجة» لبقاء هذه القوى، وتوحي بأن هذه القوى تقوم بواجبها حيث هي وبأن لا بديل عنها أبداً. هذا ما تقوم به سائر الأنظمة القمعية، وهذا ما تقوم به السلطة اللبنانية الممدّدة لنفسها.
رابعاً: العدو الواحد والخطر الداهم. «داعش».. ذلك الموت الآتي من الشرق، والذي لم يعد يعلو صوت فوق صوت مخاطره، أصبح عدواً واحداً وخطراً داهماً على الطريقة الأورويلية (جورج أورويل، 1984). والإرهاب، وإن كان على الأبواب أو في الداخل حتى، إلا أنه يُوظَف لتوحيد الشعب حول الجيش ومبدأ القضية السامية، وهذا سمة من سمات الأنظمة القمعية.
خامساً: إلغاء تداول السلطة. وهذا من الملامح الأكثر وضوحاً في الأنظمة القمعية، وهو ما فعلته قوى النظام اللبناني مؤخراً من خلال التمديد. على أن أهمية المسألة ليست في التمديد بحد ذاته، بل كون الأخير قد أزاح الوهم عن الديموقراطية. فالانتخابات لم تكن يوماً سوى عملية معدة بدقة لاقتسام السلطة بين أفرقاء النظام اللبناني. وقد كانت نتائجها معروفة سلفاً، شأنها شأن أنظمة الـ99 في المئة، مع السماح بهامش للمنافسة بين قوى النظام نفسها لمحاولة تحصيل مكاسب جزئية تسمح بها الصيغة اللبنانية.
هكذا، يستمرّ النظام اللبناني من خلال حكومة تضم جميع مكوناته. وتقطّع المرحلة حتى يستجدّ جديد، يغير المعادلات.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك