يرى المراقبون أنّ الجنوب عاد مكاناً لتوجيه الرّسائل المتبادلة، خصوصا في ظلّ الاعتداء المتكرّر على «اليونيفيل» وبالتحديد الكتيبة الفرنسية، وهذه المرّة في منطقة تقع تحت سيطرة مباشرة لـ»حزب الله»، ما يسمح بالقول إنّ تفجير أمس هو ورقة من الأوراق العديدة التي يلعبها المتصارعون على مساحة الشرق الأوسط، في ظلّ التطوّرات في سوريا والموقف الفرنسي المناهض للنظام السوري.
إستهدف انفجار في التاسعة والنصف صباح أمس سيارة جيب عسكرية للكتيبة الفرنسية من نوع "شيروكي"، رقم لوحتها 10682، بينما كانت تمرّ على طريق النباعة - الساقية بين الحوش والبرج الشمالي شرق صور وسط بساتين الحمضيات، ما أدّى إلى تضرّر الآلية وإصابة طاقمها المؤلّف من ضابط و4 جنود بجروح، وجرح كلّ من اللبنانيَّين علي محمد صافي ومحمود خليل.
وعلى الفور، ضرب الجيش و"اليونيفيل"، طوقا أمنيا في المكان وباشرا التحقيق، فيما حضرت عناصر من الصليب الأحمر وأسعفت الجرحى قبل نقلهم إلى المستشفى.
ووضع مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر، يده على القضية وكلّف الأجهزة الأمنية إجراء التحقيقات الأوليّة، كذلك أوفد مفوّض الحكومة المعاون لدى المحكمة العسكرية القاضي داني زعنّي لمعاينة مكان الانفجار.
ماذا أظهرت النتائج الأولية للتحقيق؟
علمت "الجمهورية" من مصدر أمني أنّ التحقيقات الأوليّة في الحادث أظهرت أنّ الكتيبة الفرنسية استُهدفت بواسطة عبوة ناسفة زُرعت على يمين الطريق العام في صور، وتحديدا عند مثلّث بلدات البرج الشمالي وحوش بسمة وصور، وأنّ العبوة هي من صنع محلّي ولا تحتوي أيّ مادة حديدية من شأنها التسبّب بإشعال الفتيل، وأنّ مجرّد عصف الانفجار هو ما تسبّب في أضرار في الآلية وإسقاط الجرحى. وبناء عليه، رجّح المصدر ألّا تكون العبوة معدّة للقتل، إنّما لتوجيه رسالة معيّنة، مشيرا إلى أنّ زنة العبوة بلغت نحو 3 كلغ من مادة "تي.أن.تي"، وقد تمّ تفجيرها بواسطة صاعق موجّه.
وأوضح المصدر أنّ التفجير حصل عن بُعد بواسطة جهاز لاسلكي، استنادا إلى موقع زرع العبوة المسيّج ببساتين ليمون يمينا ويسارا، مرجّحا استحالة مراقبة هذه الطريق الفرعيّة جوّا. واعتبر أنّ "من البديهي أن يكون منفّذ العملية قد أدارها من الجهة الخلفية للآلية، خصوصا وأنّ التفجير لم يستهدف سوى واجهتها الأمامية، ما يشير إلى عدم تمكّن المنفّذ من رؤية سير تنفيذ العمليّة بوضوح.
وأعلن المصدر أنّه تمّ نقل عيّنة من المادة المتفجّرة، إلى بيروت، لمعرفة المادة المستخدمة في التفجير الذي أحدث فجوة في الأرض بعمق متر واحد وعرض مترين.
وكشفت التحقيقات أنّ موقع الانفجار عبارة عن طريق فرعية مختصرة، لا تعتمدها السّيارات عادة، بل تستخدم أحيانا من المارّة، وغالبا ما تسلكها الدورية الفرنسية عكس سائر الدوريات في "اليونيفيل" التي لا تلجأ إليها أبدا.
وكشف المصدر أنّ هذا التفجير يشبه من حيث التنفيذ، التفجيرين اللذين استهدفا القوّتين الإيطالية والفرنسية في شهري أيار وتموز الماضيين، لافتا إلى أنّ سيارة مرسيدس شوهدت في الحوادث الثلاثة، وهي تغادر مكان الانفجار إثر وقوعه، وبصورة مفاجئة، وعلى متنها شخصين غريبين عن المنطقة.
وأعلن المصدر أن شهود عيان أفادوا بأنّ شخصين كانا حضرا قبل يومين إلى المحيط الذي وقع فيه الانفجار، وبدت لكنتهما عربية غير لبنانية، وقد سألا بعض الأهالي عمّن يسلك الطريق، فرفضوا إعطاءهم الأجوبة.
المنطقة تحت سيطرة "حزب الله"
وفي سياق متّصل، أشارت أوساط مراقبة إلى أنّ موقع الانفجار يعتبر ضمن منطقة خاضعة أمنيّا وعسكريا لنفوذ "حزب الله"، ما يترك علامات استفهام وتساؤلات عن أبعاده وأهداف منفّذيه، إذ من المستغرب زرع متفجّرة في هذه المنطقة بالذات من دون علم وإشراف "حزب الله" الذي يفرض سيطرته الكاملة عليها، خصوصا أنّها منطقة مكشوفة وغير آهلة بالسّكان، كما أنّ الطريق المستهدف لا يستعمل كثيرا من العموم في حين تسلكه الكتيبة الفرنسية في شكل دائم وباستمرار.
وقال مصدر في "اليونيفيل"، لـ"الجمهورية": إنّه "من المبكر تحديد الجهة المسؤولة عن الحادث"، مؤكّداً أنّ "اليونيفيل ستستمرّ في عملها بالتنسيق والتعاون مع الجيش والسلطات اللبنانية". وقال أحد شهود العيان علي فتوني من بلدة البرج الشمالي لـ"الجمهورية"، إنّ دويّ الانفجار كان قويّا وقد تردّدت أصداؤه في قرى وبلدات صور وإنّ العديد من العمّال الذين كانوا يعملون في البساتين نجوا بأعجوبة.
تجميد موَقّت لدوريات "اليونيفيل"
الى ذلك علمت "الجمهورية" أنّه عقب وقوع الانفجار اتخذت "اليونيفيل"، قرارا بتجميد دورياتها على الحدود في منطقة جنوب الليطاني خشية تعرّضها لاعتداءات مماثلة، كذلك جمّدت عمل موظّفيها المدنيين، لتعود بعد بضع ساعات عن قرارها وتسيّر دورياتها، بوتيرة حذرة.
ردود الفعل
وتوالت أمس ردود الفعل المندّدة باستهداف الكتيبة الفرنسية، فشدّد رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان على أنّ العمل الإرهابي الذي استهدف الوحدة الفرنسية "إنّما يهدف إلى الضغط على هذه القوّات للانسحاب والإفساح في المجال أمام عودة النشاطات الإرهابية". وأكّد أنّ "المجتمع الدولي لن يسمح بعودة الإرهاب"، معتبرا أنّ "فرنسا لن ترضخ لمثل هذه الضغوط وهي التي بذلت التضحيات من أجل السلام في لبنان والعالم".
ولفت إلى أنّ "القوى الأمنية ستتابع هذه العملية الإرهابية وستعمل على القبض على المعتدين تمهيدا لمعاقبتهم".
وأجرى سليمان من أرمينيا اتصالات بكلّ من رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي ووزير الدفاع فايز غصن وقائد الجيش العماد جان قهوجي، وأعطى توجيهاته لكشف الفاعلين في أسرع وقت ممكن، وتأمين التسهيلات اللازمة لمعالجة الجرحى. إلى ذلك، تفقّد غصن بتكليف من سليمان، الجرحى من القوّة الفرنسية، في مستشفى حمود في صيدا، مدينا الاعتداء.
برّي
من جهّته اعتبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي أنّ التفجير "يشكّل حلقة في سلسلة تستهدف الشاهد الدولي المكلف بتأكيد تنفيذ القرار 1701 ويشكّل خدمة لإسرائيل"، داعيا الجيش والمؤسّسات الأمنية إلى "زيادة الانتباه وتكثيف الإجراءات"، وحضّ "اللبنانيين والقوى السياسية على زيادة اليقظة والانتباه لمنع محاولات تعكير الأمن".
وفي السراي الحكومي، رأس ميقاتي اجتماعا أمنيّا موسّعا لضبط الحدود وطلب خلاله إجراء تحقيق مفصّل في الحادث، متمنّيا الشفاء للجرحى الذين أصيبوا في الاعتداء.
وقال رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" النائب ميشال عون: إذا كان هناك من يفكّر في أن تذهب هذه القوّة من لبنان فيجب أن يقول ذلك بتعبير صريح وحيّ أو باحتجاجات علنية أمام الحكومة، وإلّا فإنّ هذا العمل هو إرهابي ونحن نستنكره".
ورأى رئيس كتلة "المستقبل" الرئيس فؤاد السنيورة أنّ الانفجار "عمل إرهابي يهدف إلى زعزعة الأمن في لبنان وضرب حال الاستقرار والهدوء في الجنوب التي أتت نتيجة صدور وتطبيق القرار الدولي 1701، وبالتالي فإنّ هذا العمل الجبان يهدف إلى تعريض لبنان لمخاطر جمّة وتحويله ساحة صراع".
من جهته، اعتبر "حزب الله" أنّ الاعتداء "استهداف لأمن لبنان واستقرار جنوبه على وجه التحديد". وأهاب بـ"الأجهزة الأمنية اللبنانية العمل بكلّ جهد لوضع حدّ لهذه الاعتداءات".
بييتون
ودعا السفير الفرنسي في لبنان دوني بييتون السلطات اللبنانية الى "تحقيق فعّال"، وأعلن أنّه لا يستطيع اتهام أحد في هذه المرحلة، مشيرا الى أنّ السلطات اللبنانية اتخذت إجراءات ولا يمكن أن يحصل تراخٍ على صعيد إتمامها لتتمكّن قوّات "اليونيفيل" من إتمام مهمّاتها لما فيه مصلحة اللبنانيين والمنطقة، مؤكّدا أنّ بلاده تبقى متمسّكة بمتابعة مهمّاتها في "اليونيفيل".
آسارتا
من جهته، إستنكر القائد العام لليونيفيل اللواء ألبيرتو آسرتا الانفجار قائلا: "هذا العمل لا يهدف فقط إلى الحاق الضرر بقوّات حفظ السلام، ولكنه يهدف أيضاً إلى تقويض الاستقرار والسلام الذي كان سائداً في الجنوب". وأضاف، أنّ "تصميم "اليونيفيل" بعد هذا الهجوم، والتزامها ولايتها بموجب القرار 1701 أصبحا أقوى من ذي قبل، ولن نحيد عن مهمّاتنا وستبقى جهودنا منصبّة على تحقيق ولايتنا جنباً إلى جنب مع القوّات المسلحة اللبنانية". وشدّد على ضرورة كشف مرتكبي هذا الاعتداء وتقديمهم إلى العدالة.
الاعتداءات المتكرّرة
يُذكر أنّ هذا الاعتداء هو الثالث من نوعه في غضون عام والسابع منذ انتشار "اليونيفيل"، في الجنوب عقب عدوان تموز 2006. وكانت دورية للكتيبة الفرنسية تعرّضت لتفجير في 26 تموز الماضي عند مدخل مدينة صيدا على جسر سينيق، أوقع 6 جرحى.
كذلك، تعرّضت الوحدة الإيطالية الى تفجير في 27 أيار الماضي على مدخل الرميلة أسقط 4 جرحى، كما أنّ الوحدة الإسبانية فقدت 6 من جنودها في انفجار عبوة بآليتهم على طريق سهل الدردارة - الخيام عام 2007.
واستهدف انفجاران متزامنان فندقا وملهى ليليا يرتاده ضبّاط من "اليونيفيل"، ومحلا لبيع الخمور في 16 تشرين الثاني المنصرم في صور.
هذا وقدّمت "اليونيفيل"، حتى اليوم 292 شهيدا من وحداتها من بينهم 24 جنديّا سقطوا في عدوان تموز 2006.
وأشار مصدر أمني لـ"الجمهورية" إلى أنّ "12600 جنديّ من قوّة "اليونيفيل"، منتشرون اليوم في الجنوب من 36 دولة بينهم ألف موظف مدني وأنّ نحو 700 موظف لبنانيّ يعملون لدى اليونيفيل".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك