أخيراً ثأر الأميركيون. قتلوا بن لادن. هلّل الجمهور الأميركي في نيويورك وفي غيرها عند وصول النبأ السعيد. علمونا من قبل أن الثأر عمل شرقي متأخر لقبائل عاجزة عن ممارسة السياسة، بحاجة إلى من يرشدها ويدربها حتى تستطيع الارتقاء إلى المستوى الإنساني، لتصير قادرة على حكم نفسها بنفسها وتقرير مصيرها وممارسة حق اختيار الاستقلال. ثم نكتشف أن ثأرهم غير ثأرنا. الثأر لديهم مبرر حسب شروط يقررونها هم. كونية القيم الغربية تحتم كونية الشروط للثأر. عالم كوني لا مكان فيه للخصوصيات. إلا مراسم الدفن الإسلامي في البحر. لم نسمع في الماضي أن المسلمين يدفنون في البحر. لعل الأميركيين يريدوننا أن نتعلم شيئاً عن الإسلام، أن نطور الإسلام كي يصبح منسجماً مع القيم الكونية. خافوا إن دفنوه في البر أن يصبح مزاراً. غلطة إعدام صدام حسين لن تتكرر.
المكان، فوق ـ واقعي، في منتجع ضخم قرب ثكنة حليفة ومحطة بنزين ومجمعات أخرى. هل كان بن لادن تحت المراقبة لمدة طويلة، وجرى تحيّن الظروف لقتله، والثأر منه، ثم التخلص من جثته في البحر؟ المراسم ليست مهمة، ربما؟ لكن الموت هو المهم. موت بن لادن في منطقة حاول هو أن يرمز إليها وفشل، وجعلته الإمبراطورية رمزاً إليها، إلى منطقتنا، وفشلت. لم تسمع الثورة العربية بابن لادن ولم ترده، رغم الإعلان والإعلام وحرب الإرهاب. قامت المنطقة بثورة سلمية، ثورة من أجل الحياة، ليست الحياة فقط هي المطلوبة، بل الحياة بكرامة. أن يموت الرمز المصطنع الذي أخفى الواقع وشوهه وحجبه عن الرؤية. الواقع الذي حاولت وسائل الإعلام المحلية والدولية، التي لم يبقَ فيها شيء محلي، أن تحجبه عن طريق حجب الصور لما يجري على أرض كل قطر عربي يتعرض لثورة. لا مصدر عن بن لادن بعد موته، ولا صور عن الثورات من مواقعها، حجب الصور كان كونياً ومشتركاً. حتى مصر التي لم تمنع وسائل الإعلام كانت الصور الواردة منها قليلة.
ليس التلفزيون هو ما يعرض الواقع. هو يعرض الصور، ويكرّرها عن طريق خلق انطباعات تؤكّدها نقاشات كثيرة (لمن لا يفهم بسرعة). الانطباعات تكوّن مواقف، المواقف تؤخذ على أساس الانطباعات. الانطباعات يمكن توجيهها بهذا الاتجاه أو ذاك، لتكوين المواقف بهذا الاتجاه أو ذاك في هذا البلد العربي أو ذاك، لتشكيل الموقف المطلوب تجاه هذا البلد أو ذاك، والموقف المطلوب من سلطة هذا البلد أو ذاك. هكذا تدمج السلطات والثورات ضدها، في هذا البلد أو ذاك، تدمج في رزم من المعلومات والمواقف والسياسات التي لا تمت بصلة إلى الموقف ولا الموقف المضاد، بل تخدم السلطة التي تدير الإعلام الكوني. على الثورات المحلية أن تتوافق مع المعايير الكونية. السياسة تصنع محلياً. الإعلام الكوني يلغي المحلي، يلغي الاختلاف، يلغي السياسة. تصير الثورات من دون سياسة، من دون مطالب.
مساكين هؤلاء الأميركيون، لم يبق لديهم إلا بن لادن وأمثاله لتحقيق الانتصارات. القوات الخاصة، ذات تدريب عالي المستوى؛ تعاون دقيق مع CIA، رئيس صاحب قرار بعد خمسة اجتماعات في غرفة الأوضاع؛ تنفيذ دون خسائر أميركية، سوى طائرة هيليكوبتر، دمروها قبل الإقلاع. تبارى الخبراء العسكريون والمدنيون على الفضائيات للبحث في الآثار والنتائج، وإطلاق التوقعات؛ كأنهم أحسنوا التوقعات في الماضي. كرنفال احتفالي كوني من انتفاخ الذات، الذات الأميركية الكونية؛ المدنية التي تعرف «كيف» تتصرف في مواجهة الوحش المتوحش الذي لا يعرف ولا يريد أن يعرف إلا ما هو مرفوض وممجوج ومحتقر؛ هذا الوحش المتوحش القابع في أعماق نفس كل منا، في حضارتنا. كيف لا وقد تطهرت حضارتهم من وحشيتنا.
بشّرنا القادة الأميركيون، واتباعهم الأوروبيون، وأتباع أتباعهم في بقية العالم أن حرب الإرهاب مستمرة، ضد ما هو مرفوض وممجوج ومحتقر. المحتقر هو نقيضهم، هو من له مطالب، من يسعى أن يكون شريكاً في الإنسانية، المحتقر فعلاً هو المحروم الذي يعتقد أنه يمكن أن يصير شريكاً في نظام عالمي تأسس على أفكار الحقوق والقيم الإنسانية. لكن النظام يدمر نفسه بأن يقتل من اصطنعه ورباه كي يخوض الحرب المقدسة ضد الغازي المحتل لبلد إسلامي، الشيوعي الكافر الذي لم يكن له حتى الحق أن يدخل بلداً إسلامياً.
قتلت الإمبراطورية ربيبها، ضمنت بذلك تطهير ذاتها. كانت بحاجة لتطهير الذات، وعن طريق ذلك إلى إخضاع من يتبعها من الأنظمة العربية التي تعلن صاغرة حزنها عليه. تكتمل الكوميديا بمنع جنازة الابن الشرعي للمجموعة الدولية المتألفة من دول متجانسة في اضطرارها إلى اصطناع عدو، إلى تصنيع عدو إسلامي، تصنيع عدو يبدو أنه لن يثور.
لكن العربي ثار، أصبح ضرورياً بعد تسلل تونس ومصر إلى الثورة، قتل الثورة، بداية بالأنظمة الأكثر هبلاً مروراً بالأكثر احتيالاً وصولاً إلى الأكثر جدية.
لا بد وأن قتله كان متوافقاً مع توقيت ما. لا ندعي أننا نعرف التوقيت. لكن الذي كان هو المطلوب الأول في العالم يسكن وسط مؤسسات دولة حليفة للولايات المتحدة. لا بد أنه كان معروف الإقامة، وأنه كان معروفاً لدى الأميركيين والباكستانيين. قتله هؤلاء، إذن يكون ضدهم، إذن يكون ثورياً. لكنه مات من دون أن يعرف الثورة، ومن دون أن تتعرّف الثورة إليه. مات في حضن الأميركيين عندما لم يعد يلزم. ظنوا أنهم أفلحوا إعلامياً.
ربما أفلحوا إعلامياً بقتل بن لادن في هذا الظرف، بعد اضطرار أوباما لإعلان وثيقة ولادته وقبل إعلان ترشحه، من أجل ضمان نجاح هذا الترشيح. أما العرب فلا يعنيهم من قاتل في معارك كثيرة إلا في معاركهم أو قضاياهم.
يعرف العرب قضاياهم، يثورون من أجلها؛ الثورة تلقائية عفوية شعبية، ليس لديها برنامج أو زعيم كاريزمي، ليس لها مطالب، إلا مطلب بسيط: الكرامة بما يتناقض مع كل ممارسات النظام. هذه ثورة وجدان تنطلق من داخل الذات. هل يستطيع الإعلام والإعلان الدخول إلى الوجدان العربي من اجل إعادة صياغته؟ كي يخضع العرب ثانية لإسياد هذا العالم؟ أسياد الإعلام وفضائياته؟ أسياد النظام العربي وأقطاره، نظام المثقفين المعرفي واستكانة أصحابه؟
لدى الميديا قدرة هائلة على ضخ كمية كبيرة من المعلومات والأفكار التي تصير انطباعات. الانطباعات تكوّن حقائق أخرى غير الواقع، تحجب الواقع، ثم تصير مكانه؛ ثم يصير الواقع تشويهاً للحقائق الافتراضية التي خلفها الإعلام.
يعتبر الإعلام أنه أنجز المهمة عندما خلق الحقائق الافتراضية التي قررت المواقف لدى كل شاهد عربي. يقبض أجر مهمته من الأسياد ومن المعلنين. يمضي في البث لتأكيد الموقف الذي خلقه، لتأكيد الحقائق الافتراضية، لتأكيد الأوهام، أوهام الواقع المزيف.
تتعلق الأفكار بعلاقات خارجية، علاقات حول مواضيع خارج الذات. يتعلق الوجدان بأفكار داخل الذات لا علاقة لها بالخارج. الوجدان علاقة ذاتية، داخل الذات. يستطيع الإعلام إعادة صياغة الأفكار وبرمجتها؛ هي علاقات خارجية. يستطيع الإعلام خلق رغبات جديدة وإعادة برمجتها من أجل تسويق السلع التي تلبي هذه الحاجات. الإعلام أداة تسويقية، لكن سلطته تقف عند حدود الرغبات والأفكار. لا يستطيع الإعلام النفاذ إلى داخل الوجدان، إلى داخل الذات. تظل الذات مستعصية، وإلا لما كان هناك تطور ولما كانت هناك ثورات.
لا ينتمي بن لادن إلى هذا الوجدان العربي، الوجدان الذي أطلق الثورات، بل ينتمي إلى المنظومة العربية التي اعتمدت على العلاقات الخارجية، خارج الذات فكرياً، وخارج المنطقة العربية وجدانياً. كان جزءاً من المنظومة العربية في تبعيتها، عندما خاض الحرب ضد الروس في أفغانستان، وعندما خاض الصراع على السلطة في المملكة السعودية احتجاجاً على نزول الجيوش الأجنبية فيها. كان جزءاً من الصراع على السلطة في المنظومة العربية، وعندما ثارت الشعوب العربية ثورة الكرامة والوجدان، وأدانت الأنظمة العربية بتبعيتها للخارج، ولا شرعيتها في الداخل، كان بن لادن في غير الصفوف الثائرة. وأحس بذلك، ولم يعد لوجوده حاجة. أُعدِم أو انتحر. الأمر سيان.
الوجدان العربي موحّد. المزاج العربي من المحيط إلى الخليج واحد. يخطئ الإعلام العربي والدولي عندما يعتبر أنه كلي السلطة وأنه يستطيع طمس الثورة العربية عن طريق الانتقائية. كان انتقائياً في البحرين، والآن يريد أن يكون انتقائياً في سوريا. بدأ هذا الإعلام يفقد مصداقيته عندما اتضحت انتقائيته. استكبر الإعلام العربي وانتفخ، ثم انفجرت الفقاعة. لم يدرك أن في الوجدان العربي ما لا يمكن الوصول إليه، وما لا يمكن تغييره بسلسلة من الصور والندوات التي تجمع مناقشين من العهد البائد، البائد ثقافياً: سواء كانوا من أتباع السلطات أو من خصومها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك