سجن رومية صورة عن المجتمع اللبناني، بل هو المجتمع بتناقضاته وحساسياته الدينية والمذهبية. ورغم أن المعاناة يفترض أن توحّد أصحابها، إلا أن الاقتراب من رومية يفضح التقوقع والانقسام. هناك يمكن أن يُفهم، تماماً، كيف أن الطائفية أقوى من أي شيء آخر
محمد نزال
في رومية يقل منسوب الاتحاد في المعاناة، لمصلحة التقوقع والانزواء. يتصادم سجناء في ما بينهم، على خلفية طائفية، ضاربين بعرض الحائط «مأساة» السجن المركزي. يعرفون مذاهب بعضهم بعضاً من الأسماء، وإذا عجزوا فمن الوشوم التي يندر أن يخلو جسد سجين منها. وشما الصليب وسيف ذو الفقار يعرّفان عن طائفة أصحابهما، أما من يحرّمون الوشوم، فتتكفّل اللحية الكثة والشاربان المحفوفان بالتعريف عن حاملهما.
في كل مرة تزداد فيها حدة الانقسام خارج السجن، ترتفع نسبة الأدرينالين في عروق السجناء، على وقع توترات البلد وانقساماته. في هذه الحالات، تصبح كل مجموعة «أكثر إصراراً على ممارسة الشعائر الدينية التي تميز كل طائفة عن أخرى»، حتى لو لم يكن أفرادها من المتدينين أصلاً. بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 بدأت الاصطفافات السياسية والطائفية داخل السجن بالبروز. خلال عدوان تموز عام 2006، يقول أحد السجناء «كنا جميعاً، من مختلف الطوائف، متضامنين مع زملائنا الشيعة، الذين كانت تتعرض مدنهم وقراهم للقصف والغارات»، وفي أحداث 7 أيار 2008 «اعتقدنا بأن البلد ذاهب إلى الخراب، فبدأنا بالتفكير في طريقة للهرب من السجن إذا فرطت الدولة، لكن، بعد أيام، غاب الهمّ الجماعي (الهرب) ليحل مكانه الهم الطائفي». مذّاك تعمّق الانقسام بين السجناء، وباتت تتردد في أرجاء السجن عبارات من نوع «حزب السلاح» و«غزوة بيروت» و«الروافض»، وعلى وقعها سُجّلت إشكالات ووقعت صدامات وسقط جرحى.
في «فديرالية رومية» التقسيمات واضحة: المبنى «د» محسوب «تاريخياً» بأنه «قلعة الشيعة». أما مبنى المحكومين، فـ «من حصة» المسيحيين، فيما تحوّل المبنى «ب» إلى أشبه ما يكون بـ «إمارة إسلامية» مذ خصّص للإسلاميين من «ذوي الخصوصية الأمنية». وهؤلاء، بحسب سجناء أكثر، باتوا أكثر استعراضاً لقدراتهم «وخصوصاً بعدما شعروا بقوتهم إثر إخلاءات السبيل السياسية التي حظي بها بعضهم»، و«على ضوء ارتفاع الصوت السلفي في لبنان والمنطقة العربية في الآونة الأخيرة». يشكو زملاء هؤلاء من «سلوكيات أشبه ما تكون بسلوكيات المطاوعة»، إذ غالباً ما يكونون طرفاً في إشكالات على خلفية «شتيمة عادية من تلك التي يكثر سماعها بين جدران السجن». نزيل مبنى المحكومين محمد أ. م. يشير إلى أن «عقلية التكفير» آخذة بالانتشار، ويقول: «هناك خوف لدى بعض السجناء لأن التكفير قد يصل أحياناً الى مرحلة إباحة الدم»، لافتاً الى تعرّض الشاب حسن ن. د. قبل أيام، لضرب مبرح على أيدي سجناء من «فتح الإسلام»، ما دفع المسؤولين الى نقله إلى مبنى المحكومين، كما تعرّض السجين بيار م. لاعتداء مماثل.
ولأن الدم بالدم يذكر، يمكن المرء أن يتخيّل كيف يمكن أن يكون رد سجناء ومحكومين لا يترددون في تشطيب أنفسهم من دون مناسبة إذا جرى شحنهم طائفياً ومذهبياً.
أحد السجناء الإسلاميين يرفض «التعميم» الذي يستهدف الفئة التي ينتمي إليها. يقر بأن «بعضنا قد يكون أكثر تشدداً من غيره، وتحديداً سجناء فتح الإسلام»، لكنه، في المقابل، يشير إلى أن هناك «سجناء إسلاميين سنّة على وئام مع زملائهم من بقية الطوائف»، لافتاً إلى أن الإشكالات تقع غالباً بسبب «التلفظ بالكفر وعدم مراعاة المشاعر الدينية الأساسية». وهذه، في رأيه، واحدة من مشاكل رومية التي لا تنتهي بسبب الاكتظاظ وعدم فرز السجناء كل بحسب جرمه، وصولاً ربما إلى فرزهم كل بحسب دينه ومذهبه.
خطّ التوتر الأساسي في رومية شيعي ــــ سني، فيما «حال المسيحيين في السجن تشبه حالهم خارجه» بحسب مسؤول إحدى الجمعيات التي تتعاطى مع السجناء. للتفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله انعكاساته هنا أيضاً. مؤيدو العماد ميشال عون أكثر قرباً من السجناء الشيعة وانسجاماً معهم. أما تحالف القوات اللبنانية وتيار المستقبل، فلم يعد على السجناء «القواتيي الهوى» بالكثير، لأن الغلبة السنّية خلف القضبان هي للإسلاميين لا للمستقبليين، على عكس ما هو الوضع خارج السجن، ومن الصعب على سجين قواتي أن ينسجم مع أصدقاء يحملون أسماء كـ «أبو حذيفة» أو «أبو مصعب» أو غيرهما لأسباب لا تخفى على أحد.
طائفية السجن لا تقتصر على السجناء، بل تنسحب أيضاً على السجّان، إذ بات العرف أن يكون آمر كل مبنى وغالبية حراسه من الطائفة نفسها، التي تتبع لها غالبية نزلائه. هكذا، مثلاً، ينبغي أن يكون آمر المبنى «ب» الذي يضم الإسلاميين سنياً، وآمر المبنى «د» شيعياً، وآمر مبنى المحكومين مسيحياً... وهكذا. ومع الوقت، يصبح الآمر أقرب ما يكون الى «زعيم» لنزلاء المبنى الذين لا يطيعون إلا أوامره ولا يرفعون مطالبهم إلا من خلاله ولا يتعاملون مع الادارة إلا عبره.
ولا يجد مسؤول أمني متابع لأمور السجن تبريراً لهذا الواقع إلا عبارة «هذا هو الواقع، وكل البلد هيك». يقرّ المسؤول بأن الطائفية «مستشرية في رومية»، لكنه يؤكد أنها «غير حادة، وما زال في الإمكان السيطرة عليها». ويدعو المؤسسات الدينية، التي تهتم كل منها بأبناء طائفتها أو رعيتها، إلى الاهتمام بالسجناء من مختلف الطوائف «لأن هذا يساعد على إبقاء السجون هادئة، ويبعد شبح الصدامات الطائفية»، من دون أن يوضح كيف يمكن مؤسسات، هي طائفية أساساً، أن تؤدي دوراً كهذا.
لا يمكن حصر كل الصدامات التي تحصل داخل السجن كل يوم تقريباً. ليس كل صدام طائفياً، إلّا أن كل صدام قد ينتهي كذلك لاحقاً. هي الطائفية إذاً، التي لا يعلم أهل السياسة، وربما يعلمون، أنها سلاح فتاك يمكنه اختراق كل مكان، وما السجون إلا أحد أبسط تلك الأماكن، فيما هي «حليب» يرضعه كل لبناني منذ نعومة أظافره.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك