لا يشك أحد في أن جميع القوى السياسية اللبنانية كانت في مأزق، بل وكان البلد كله كذلك، قبل أن يتقدم الرئيس سعد الحريري بمبادرته الوطنية من أجل اخراج هذه القوى وإنقاذ لبنان واللبنانيين بالتالي مما هم فيه. وبغضّ النظر عمّن سارع الى الاشادة بالمبادرة الشجاعة، ومن لم يفعل، فلا حاجة الى القول ان ما بعد هذه المبادرة على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي اللبناني يختلف جذريا عما كانت عليه الحال قبلها.
الرئيس نبيه بري، بما يمثله رسميا كرئيس لمجلس النواب وحزبيا كرئيس لحركة «أمل»، كان في أزمة مع حليفه «حزب الله» اذا أصر على عقد جلسة للمجلس ومع نفسه اذا تراجع عنها. و»التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» كانا في ورطة من ناحيتهما اذا ما عقدت الجلسة من دون أخذ موقفهما في الاعتبار. و»حزب الله» في ورطة بدوره مع حليفه «التيار الوطني الحر» اذا حضر، ومع حليفه الآخر «حركة أمل» اذا لم يحضر. كذلك هم النواب المسيحيون المستقلون الذين كانوا عمليا لا يعرفون ماذا يفعلون.
هكذا شكلت مبادرة الحريري خشبة الخلاص التي كان ينتظرها البلد مما كان يهدده من أخطار، ليس فقط على المستوى المحلي السابق ذكره كما عما يتصل بالقروض والتسهيلات الدولية المقدمة للبنان، بل أيضا وبشكل خاص على مستوى نظرة العالم الى لبنان، وعن طبيعة علاقاته مع المجتمع الدولي وتشريعات هذا الأخير في ما يتصل بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب وغيرهما.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلا يقل أهمية عن ذلك دور المبادرة في كسر الجدار الذي ارتفع في المدة الأخيرة بين القوى السياسية اللبنانية ذاتها، وأدى في ما أدى الى تعطيل مجلسي النواب والوزراء والعديد من المؤسسات، وصولا الى عجز أشبه بالفضيحة عن قيام الدولة بإيجاد حل لقضية النفايات التي باتت تراكماتها تهدد بتحويل البلد الى بؤرة وباء بيئي وصحي بالغي الخطر.
الآن وبعد الجلستين التشريعيتين لمجلس النواب، محصلة مبادرة الحريري، خرج الى العلن من يتكلم عن مرحلة جديدة يمكن أن تؤدي حتى الى كسر المحظور: انتخاب رئيس للجمهورية.
والأهم أن من بدأوا يتحدثون عن ذلك هم أنفسهم الذين كانوا يرفضون مجرد البحث بإمكان انتخاب رئيس للبلاد ما دام مرشح بعينه متمسكا بموقفه ولا يريد أن يتراجع عنه. بل وأكثر، أن هؤلاء بالذات لم يكونوا قد تركوا مناسبة الا وأطلقوا فيها الاتهامات يمينا ويسارا حول ما سموه تارة «فيتو الحريري»، وأخرى «فيتو السعودية»، وثالثة «سقوط نظام الأسد»، ورابعة «الانتهاء من حرب اليمن»، قبل البحث في الانتخابات الرئاسية اللبنانية.
لكأن نواب «تيار المستقبل»، ومعهم نواب قوى 14 آذار، هم الذين قاطعوا على مدى أكثر من عام ونصف العام جلسات مجلس النواب المخصصة لانتخاب الرئيس، أو أنهم هم الذين رددوا طيلة تلك الفترة: «انتخبوا(...)والا فلا انتخابات ولا رئيس«!.
ليس ذلك فقط، بل ظهر على الشاشات وفي الصحف من يبشر بأن انتخاب الرئيس قد لا يكون الا نقطة في بحر، وأن «تسوية» ما ستتم عما قريب لجهة إعادة الحياة الى عمل مجلسي النواب والوزراء بحيث يقومان بمهامهما في تسيير شؤون الدولة والسعي لحل مشكلات الناس المعيشية.
وصحيح أن بعض هذا الكلام لم يكن بريئا، وقصد منه في حالة ما تحميل الحريري وتيار «المستقبل» أوزار المرحلة السابقة كلها، وفي حالة أخرى عيوب الفترة المقبلة(صحف ما يسمى «الممانعة» وصفت المبادرة بأنها تقفل مجلس النواب)...كأن المجلس كان مفتوحا قبل الآن؟!، وفي حالة ثالثة تبعات ما قد يحصل بالنسبة للخلافات المتوقعة حول قانون الانتخابات، الا أن الصحيح أيضا أن الرأي العام اللبناني وجد في مبادرة الحريري ما قصده صاحبها تماما، ومن دون أية خلفية ضيقة: انقاذ البلد من الورطة التي وضعته فيها مواقف بعض القوى السياسية والحزبية وكيدياتها الضيعاوية الضيقة الأفق.
وليس خافيا أن انقاذ البلد من مأزقه هذا، وانعكاساته السياسية والمالية والاقتصادية عليه مستقبلا، هو ما أرادته مبادرة الحريري، وأنها بهذا المعنى أدت وظيفتها من دون زيادة أو نقصان بالرغم من كل ما يقال أو يشاع عكس ذلك.
هل من المبالغة القول ان السياسة التي يمثلها شعار «لبنان أولاً« هو ما دفع سعد الحريري في السابق وفي المرحلة الحالية، وسيدفعه لاحقا كذلك، للقيام بما يقوم به؟!، وأن «لبنان أولاً...وأخيراً هو الهدف في نهاية المطاف؟!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك