السفير
الطريق المؤدية إلى السرايا الكبيرة تمرّ بنصب الرئيس رياض الصلح، وتنتهي عند نصب الرئيس رفيق الحريري. تبدأ باغتيال وتنتهي، عند الباب الخشبي العالي، باغتيال. حارسان من البرونز واقفان دائماً عند المبنى العثماني الجاثم منذ القرن التاسع عشر في أعلى الهضبة، متفرجاً على أحوال العباد والبلاد.
حارسان لنوافذ لا تُحصى في القصر تطلُّ على أمثولة مريرة: للجالس في مقعد السنّة الأول أن يعي ثقل الكرسي ووطأتها على من اتصلت إليه بعدما لم تدم لغيره، كما تقول العبارة الشهيرة المرفوعة عند باب السرايا.
والخمسـيني الفارع الطول الذي يستقبل زوّاره عند باب مكتبه الواسع، لا يجهل الملحمية المفروضة على المكان وعلى المنصب، للأسباب الكثيرة التي تتعلق بالأقدار الصعبة للطائفة وتحولاتها وتاريخها وحاضرها.. وبالطبع جغرافيتها.
لكن التجربة التي يخوضها نجيب ميقاتي، مذ انضم إلى اللائحة الطويلة لرؤساء الحكومات، ما زالت في أوّلها. الوقت واليوميات المضغوطان إلى الأقصى، لا يسمحان له بترف التأمل. الرجل العملي المولع بالتفاصيل، يركّب قراراته السياسية كما لو أنه يركّب معادلات علمية، يحتاج فيها إلى الرياضيات والفيزياء والكيمياء. معادلات إذا أضاف إليها ابن طرابلس بعضاً من الصوفية والعفوية، بات رئيس الحكومة صاحب طريقة باسمه.. «الطريقة الميقاتية» التي ما زالت السياسة في لبنان تكتشفها يوماً بعد يوم. ناجحة في النأي عن المشاكل والالتفاف حولها والتحايل عليها.
«الطريقة» التي وإن كانت في جزء منها تقوم على الالتزام بصورة رجل الدولة الذي يتعالى عن الصغائر والنكايات والسجالات، إلا أنها، في جزء آخر، تعتمد دائماً على الالتزام بالقرار حين يعلن، وبمضمون الورقة حين تُكشف، تمويل المحكمة الدولية مثالاً، وعلى التكتم التام عن كل ما تبقى من أوراق إلى أن تحين أوقاتها، فتُرمى، صادمة، ومخالفة دوماً لكل التوقعات.
هكذا، مذ كلّف برئاسة الحكومة، وميقاتي يفاجئ الخصوم والشركاء على السواء، وكلاهما عاجز عن القبض عليه متلبساً بالإخلال بوعد، أو بممارسة كيدية تشتهيها قوى 14 آذار، حتى تكاد ترجو الله أن يوقعه في شرّها.
وهكذا عرف شركاؤه في الحكومة بسرعة أنهم لن يكونوا قادرين على احتوائه، وأنه سيظل يلعب منفرداً ووفقاً لطريقته، مستفيداً من تقاطع النوايا والمصالح مع ميشال سليمان ونبيه بري كما مع وليد جنبلاط.
كما أن ميقاتي تفاقم من البداية في وجه سعد الحريري، حتى بات معضلةً لا حلَّ لها ولا جدوى من البحث عن نقطة ضعف لدى ابن طرابلس الفارع الطول هذا الذي، وإن لم يكن يبتسم، بدا وجهه الواسع المستدير كأنما يبتسم. بكلام آخر، كيف كان يمكن تصنيع شرير من رجل أعمال ملياردير سني متدين ومعتدل وله علاقات على امتداد الدول العربية والعالم ويصرّ على أن يعمّد نفسه رجل دولة جديداً في طائفة لطالما افتخرت بأنها لا تخرّج إلا رجال دولة، من رياض الصلح وحتى رفيق الحريري؟ كيف يمكن للحريري الابن أن يزيل نقاط التشابه العديدة بين والده الراحل بالتحديد وبين الطامح إلى المنصب، والذي لا يعتبر المحكمة الدولية سمكاً، بينما الاستقرار تمراً هندياً؟
لم يجد «المستقبل» طريقاً إلى كتف الطرابلسي الذي لا يجاهر بأنه يعمل من أجل زعامة سنية، غير أنه يفاخر، ويعمل كل لحظة، على زعامة طرابلسية راسخة. وهذه زعامة تصنع بجهد، تبدأ من خطابه الذي لا تنزل مدينته من خلفيته، وتكمل متجولة معه بين غرف مكتبه في طرابلس كل نهار جمعة، مستمعاً إلى الناس وملبياً الطلبات، وتنتهي باجتماع انمائي للمدينة لوزراء طرابلس في قلب السرايا. وبينهما، وحولهما جمعيات خيرية وتيار شبابي واحتضان واسع للمحامين والأطباء والمهندسين وخلافهم ممن يشكلون القاعدة لأي تيار أو حزب سياسي مقبل، بعدما خرج ميقاتي من تحت عباءة الحريري، وارتدى عباءته وبشّر بـ«طريقة» هي الممر الالزامي لزعامة طرابلسية ومن بعدها زعامة السنة.
وهو ينصّب مدينته مراقباً على قراراته، فإذا كان الهم الوطني هو العام، فالهم الطرابلسي، بالنسبة إليه هو الخاص، يتعامل معه تعامله مع عائلته، وحساباته: انك كي تكون متقدماً في العام عليك ان تكون قوياً في الخاص..
طرابلسيته ينبغي إلا تستفز أحداً إذاً، ما دامت من حقه، وما دام لا يقدّم نفسه بصفته منافساً للحريري على زعامة الطائفة. وهو لم يقدّم لسعد حجّة واحدة تبرر شن حرب عليه.. الا تلك المتعلقة «بالطعن بالظهر»، وهي اقرب إلى حكايات «القرايا والسرايا» منها إلى السياسة بالطبع.
وبينما الهجوم يصل إلى اقصاه عليه، قبل أن يفعل شيئاً، وتحاكمه على ما سوف يتخذه من قرارات لاحقة، ظل على صمت يتعدى التهذيب إلى الحنكة السياسية العالية التي كان صمته أحد أوجهها. تركهم يبنون هجومهم على ما تنبأووا له من سقوط في حفر عديدة. وفاز عليهم بمجرد أن خيّب توقعاتهم.
لم يفرّط بصلاحيات منصبه، بل تطرّف في الدفاع عنه. بدلاً من إزاحة الضابطين السنيين الكبيرين وغيرهما، بات هو حاميهما. حتى المستقبليون من موظفي السرايا الذين ظنوا أن الزمن الجديد سيكون كالحاً عليهم، سرعان ما ارتاحوا إلى أن ميقاتي لن يسجل على نفسه، كما لا يعنيه على الأرجح، أن يخوض معركة معهم، بل استوعبهم أيضاً.
ومع أنه قال من البداية إنه سيموّل المحكمة، إلا أن موقفه ظل غير حازم بما فيه الكفاية، مما جعل خصمه يظن أنه عند الاستحقاق سيتراجع، فركز كل معركته على نية التراجع هذه، فيما كان ميقاتي أعزل، حتى جاء الوقت فلوّح بالتخلي عن المنصب، فوضعه بالتالي في موازاة تمويل المحكمة الذي صار انتصاراً له ولكمة ما زال المستقبل حتى اللحظة لا يعرف كيف سددها ميقاتي له، ولا يجد مفراً من الهروب من شدتها إلا بكيل الثناء لهذا الخصم المراوغ والصعب جداً، والذي لا يوحي أبداً بأنه ملاكم، بل يتقن العاب الخفة الممتعة كهذه التي ما زالت تؤتي ثمارها معه: نجيب ميقاتي يعطي سعد الحريري بينما الميقاتية تأخذ من الحريرية.
وفي خانة الأخذ من درب الحريرية، الخدمة المستدامة بلا انقطاع التي يقدّمها اليه ميشال عون بمناكفته وخوضه معه معارك لم يوفّق فيها «الجنرال» حتى اللحظة، ويبدو أن ميقاتي يمارسها بمتعة شديدة وبتكتيكات لبنانية يحبّها.
كما أنه، هو المحظوظ، نال مجاناً شتائم بعض من السياسيين المبغوضين سنيّاً، بعدما قرروا إضافته مذموماً إلى بيانات يومية خصّصوها في العادة للحريري وفؤاد السنيورة. ومن ساوى العداء لميقاتي بالعداء للحريري ما ظلم الأول قط.
يحب ميقاتي تركيب المعادلات الرابحة. يتقدّم بحذر. لا يخطو كيفما اتفق، وليس فيه ما يوحي بأنه مستعدّ لأن يدوس في الوحل من أجل أحد ولأي سبب. ليس مغامراً ولا يدّعي أنه ممن يخوضون المغامرات. سياسي برهن عن دهاء عالٍ، غير أنه في الأصل سياسي متخفّف من الصراعات والادعاءات الكبيرة. هو المعتد دوماً بنجاحه على المستوى الشخصي، كرجل أعمال ثم رجل دولة، يظل يرى إلى تجربته بإيجابية وتفاؤل، ما دام تقدمه إلى رئاسة الحكومة نزع فتيل صراع مذهبي أكيد، وما دام «حزب الله» يوليه ثقته، او هو على الأقل لا يتوجس منه، وما دام المجتمع الدولي أعطاه ثقة عالية بدوره، وما دام عاقلاً بما يكفي لأن يترك ما لسوريا في سوريا، نائياً بنفسه وبلبنان ما استطاع.
هو لا يخفي الارانب في كمّيه كما بات يُشاع عنه. بل إن أرانبه واضحة وتحيط به. يقف عند مجموعة من التقاطعات السياسية التي يجيد خلط نسبها من أجل معادلاته، ويعوّل على هذه المهارة في نزع فتائل مقبلة تهدد الاستقرار، هاجسه الأول كسر الحلقة المفرغة من الخلل الاقتصادي الاجتماعي التي تدور بالبلد مذ نشأته على الأرجح. لكنها عقدة تحتاج إلى أرانب لا تحصى ومعادلات لا نهاية لها.. وأكثر من طريقة من الطرق الصوفية.. ولا أحد يدري إذا كان الوقت والتطورات سيسعفانه، لكنه يعمل كأنه باقٍ في منصبه.. أبداً.
في مكتبه في السرايا المشرف من الهضبة على بيروت وأحوالها، يجلس صاحب الطريقة الميقاتية مرتاحاً. بعيداً عن المنبر وعدسات التصوير، يبدو أكثر مرحاً، تخدمه اللهجة الطرابلسية التي يلتقط بها خيط الكلام ولا يفلته قبل أن يتأكد من أنه كسر الحواجز مع ضيوفه. الرجل المتدين ورب الأسرة الذي تزوّج مبكراً، وبات الآن جدّاً، درس في الغرب وعمل فيه ويفهم لغته، وهو يجمع بين صورتي السياسي العصري والآخر التقليدي الذي يعرف تجارب من سبقوه ويحترمها، وإن كان يخص الرئيس سليم الحص بودّ واحترام خاصين.
يرى ميقاتي إلى نفسه بصفته أخذ من كل رئيس وزراء شيئاً ما، وإن لم يتقصد ذلك، و«رجل الدولة» هو وصف الصورة التي يسعى بها لذاته. لا يشبه أستاذ المدرسة الثوري الشاب الذي يقع التلامذة في حبّه ما إن يخلع سترته وربطة عنقه. هو أقرب إلى مدير المدرسة الهادئ والرصين، موضع ثقة أهالي التلامذة. هذا على الأرجح ما يريده من طائفته، ليس عاطفتها وتصفيقها.. بل ثقتها.. التي لا تأتي إلا على مهل، ونتيجة تراكم طويل.
يمضــي الآن أفضل أيّامه بالطبع. يشتغل لاسمه وبيته السياسيين. ما زالت التجربة في بدايتها، وما زال بلا أخطاء كبيرة، وما زال خصومه يبحثون عن مكامن الخــلل ونقاط الضعف في هذه الطريقة الميقاتية التي ما زالت مستغلقة عليهم.