على امتداد القرن العشرين وحتى اليوم، برزت ظواهر شعبية أو سياسية، اتخذت مسميات مختلفة، وارتبطت بالكوارث الطبيعية، أو بالأسباب الدينية، والخرافية والعجائبية فاتخذت ألقاباً أسقطت على أشكالها ومضامينها وأهدافها ومساراتها ونتائجها: منها "الزلزال" و"الهزة" و"الامتداد" و"الانفجار" و"المد" و"الاجتياح" وجلّها يرتبط بظروفها وتواريخها. مؤخراً أضيف إلى كل ذلك اسم "تسونامي"... أي الاعصار المدمر والطوفانات والضحايا والخراب ومنذ ذلك الوقت باتت العبارة "الطبيعية" مجازاً أو استعارة لكل "ظهور" مفاجئ سياسي أو اثني، أو ديني، أو طائفي. ونتذكر ان أول من استخدم هذا المجاز هو النائب وليد جنبلاط عندما وصف عودة الجنرال المنفي ميشال عون من باريس "بالتسونامي": وكأنه يقصد مجيء قوة من عناصر انفعالية طبيعية تنذر أكثر مما تبشر. واذا عدنا إلى الوراء، نجد ان مثل هذه الصفة كانت ذات مسميات متصلة أيضاً بالعناصر الفكرية أو الطبيعية "الزلزال الناصري" الذي أدرك مجمل الشعب المصري والعربي اجتاح النظام الملكي واعلن الجمهورية، مع ان هناك من اختار له كنايات أخرى "المد الناصري" ونتذكر هنا النازية الجامحة التي هزت العالم بجنونها وعنصريتها في حرب خلفت نحو 50 مليون ضحية... وينسحب ذلك على الثورة البولشفية تلك العاصفة التي دمرت القيصرية بعد حرب أهلية لترسي النظام الشيوعي أو "الماركسية اللينينية"... وفي الاربعينات غزت اسرائيل ومعها العالم فلسطين، كاعصار مسموم واحتلت أجزاء منها. يعقب ذلك نكسة 1967 واحتلال اسرائيل أراضي من ثلاثة بلدان عربية: مصر، الأردن، سوريا... وإذا عدنا إلى لبنان نجد مثل هذه «الانفجارات» على الصعيدين السياسي والطائفي....
فالحلف الثلاثي في السبعينات بين الأحزاب المارونية الأساسية الأحرار (شمعون)، الكتائب، (الجميل)، الكتلة الوطنية (ريمون اده) شكل نوعاً من هزة صعقت نظام المخابرات والمكتب الثاني في العهد الشهابي...
ونظن ان كل هذه الظواهر، على تفاوت قوتها وأثرها، كان يمكن أن تسمى "تسونامي" بالمفعول الرجعي باعتبار ان ذلك بات اليوم "مصطلحاً" جارياً ينتظر استخدامه في كل مفاجأة سياسية أو شعبية أو غيبية أو "عجائبية" أو حتى غرائزية أو خرافية لا عقلانية. لكن يُضمر هذا المصطلح عموماً المعاني الكارثية السلبية، والتي لا نجد تفسيراً لها أحياناً، باعتبارها "انفجارات" موضعية أو زمنية أو مناسبية أو عمومية. فالتسونامي يذكر بالخراب وكذلك "الزلزال" و"الانفجار"... كلها توحي بالموت والخراب بينما مصطلحات "الامتداد" أو "المد" استخدما لتظهير الطبيعة الشعبية المتراكمة، التي تتواصل بمسار متصل بالقيم أو بالثورات. فالتسونامي أقرب إلى مصطلح "الانقلاب" العنيف العسكري، المدمر، الاعصار الجارف الغيبوي. فالناصرية بدأت بانقلاب عسكري (تسونامي) وانتهت بثورة شعبية ذات حركات متصلة سياسياً وفكرياً. وهذا ما ينطبق على "الربيع الايراني" الذي عصف بنظام مستبد دكتاتوري، فاسد. وهنا "التسونامي" يتخذ ميزة "الثورة" الشعبية السلمية التي قمعت بوحشية وبربرية من قبل نظام خامنئي والحرس الثوري. ونظن أن "الانتفاضة" اللبنانية "ثورة الأرز" قامت لتحرير لبنان من الوصاية السورية بتحركات شعبية، سلمية، ديموقراطية فجرها اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري! بالمفعول الرجعي لا يمكن وصفها (كالثورة الإيرانية) بالتسونامي. وهكذا بدأ الربيع العربي "ثورة شعبية" غير عنيفة نتيجة قمع الأنظمة الفاسدة والطغيانية والدكتاتورية... من تونس إلى مصر إلى ليبيا، واليمن وسوريا... لكن هذه الثورة العزلاء ضُربت بسلاح الأنظمة المستبدة وحولت مجاريها من سلمية إلى أهلية وعسكرية. (باستثناء تونس ومصر) واجتمعت لوأدها دول العالم وكبارها وعلى رأسها أوباما ونتنياهو وخامنئي وبوتين... وهكذا تحول هذا الظهور الشعبي التغييري إلى "تسونامي" خراب وقتل ومجازر وتدمير وعنف...
الخارج
لكن ما يمكن لحظه وفي مختلف تلك التحولات ان كل تسونامي يأتي عادة من الخارج إلى الداخل أو من فوق إلى تحت، أو من تحت إلى فوق. "تسونامي" وهو تعبير عن عدم توازن في "طبيعة" أو خلل في "المجتمعات" كان في القديم، في التوراة دليل غضب الهي تحقق بإرادة الهية ليعاقب البشر على مجافاتهم القيم الدينية، كالطوفان وسدوم وعمورة. فليس من صنع الطبيعة (بحسب التفسير الديني) بل بمن يحرك مآلات الطبيعية. اي الله. وذهب هذا التفسير مذهب التفاسير الخرافية واشكال التغير والخوف ما يجعله والهواجس والهواجس الشعبية والإيمان بما يعني الأسباب "غير العقلانية" التي تأتي من لدن السماء لتدمر ما في الأرض من فساد. وهنا يتخذ هذا "المفهوم" منحى تطهيرياً أو تذكيراً بوجود الاله التي تصنع مصائر الطبيعة والبشر والعالم.
ويعني ذلك ان كل خراب أو مصيبة أو كارثة "طبيعية" (او انسانية) فردية أو جماعية تأتي من الخارج الفوقي من ارادة سامية لا ترد ولا تواجه. بل ان ذلك يعني أيضاً إن كل التحولات والحروب والمجازر والعوامل الطبيعية لا تفجر إلاّ بإذن "سماوي". وهنا بربط الدينوي (الوضع البشري)، بالإلهي (موقف السماء)، بأدوات هي الطبيعة والسلوكيات الإنسانية، فكل تفسير لهذه الظواهر الخارقة أو المفاجئة هو فوق الإنسان، وإن حقق بواسطته. ولكن إذا كان علينا التعاطي على شكل سببي عقلاني أو علمي أو متصل بقوى الإنسان الداخلية والخارجية، نجد نسبياً أن ما ينطبق من مسببات التسونامي الدينية (أو الخرافية)، لينطبق على الظواهر الاجتماعية، والإنسانية. فإذا كان التفسير الديني "يبرئ" الإنسان من هذا الفعل الخارق (لأنه أكبر منه)، فالمعطيات يمكن أن تشير إلى أنه هناك نوعان من التسونامي (البشرية): الداخلي الذي يفيض كالطوفانات أو كالكوارث إلى الخارج. والخارجي الذي يجتاح الحدود البعيدة، ليدرك عناصر الداخل السياسية، والاثنية، والدينية، والثقافية والحضارية بتسهيلات من واقع المجتمعات ووقائعها وتناقضاتها. إذاً ليس هو طبيعياً محضاً، ولا سماوياً، بل أرضي أيضاً من صنع القوى الجامحة بأفكارها، وطموحاتها، وغرائزها، وأهدافها.
الشخص
فالتسونامي النازي امتد من خلال "الفوهرر" ليجتاح العالم كله. وقبله التسونامي الشيوعي، وقبل كل ذلك التسوناميات "الاستعمارية" التي استباحت حدود العالم، وصولاً إلى العالم العربي (نتذكر "التسونامي" الفرنسي في الجزائر). وهنا بالذات يمكن التمييز بين تسونامي بمنابعه ومصادره الخارجية، وبين تسوناميات ارتدادية في هذا الداخل أو ذاك.
وإذا عدنا إلى القرن العشرين تحديداً، وفي لبنان تخصيصاً، نجد "تسونامي" الثورة الخمينية (ثم الخامنئية) أحدث ارتجاجات وارتدادات داخلية في لبنان تمثلت بتأسيس "حزب الله"، والمقاومة، ومواجهة إسرائيل، فحزب الله مجرد ارتداد "زلزالي" لثورة خارجية، وليس تسونامي داخلياً. وهذا النوع من الارتدادات الجوانية تجسدت في الثورة الفلسطينية التي كانت تسونامي "خارجياً" بتفاعلات داخلية: حرب 1975.
تسونامي الخامنئية
ونظن أن الظاهرة الخمينية الهوجاء، الخرافية، الدينية، ذات الخلفية الفارسية، وجهت أعاصيرها إلى لبنان والعالم العربي والإسلامي (السني)، كرد مباشر على "الظاهرة" الفلسطينية المسلحة التي تبلورت أيضاً في مقاومة إسرائيل. الإثنتان مصدرهما الخارج، وتداعياتهما في الداخل: وهذا بالذات ما أفضى إلى حروب، وكوارث، وجنون، وقتل، وتقسيم، وارتماء الإنسان في غرائزه وأسبابه وهوسه، ولاعقلانيته: فالطائفية هنا من صناعة خارج الحدود، ومن ممارسة داخل الحدود... وهذا لا ينسينا تسونامي النظام السوري العسكري الذي غزا لبنان أيضاً، وجعل نفسه "قدراً" (فوقياً) عليه... ومن هذه الظواهر بررت إسرائيل ذلك لتصنع تسوناميها عام 1982، وتغزو لبنان، وتحتل أجزاء من لبنان... مخلّفة الدمار والخراب، والموت، والمهانة: وهنا تلتقي أسباب تسوناميات الخارج بارتدادات الخارج، لتدرك الأسس العقلانية والوعي والمنطق. فالتسونامي الآتي من الخارج، لا يُدمر ولا يقتل ولا يستبيح فقط الحجر، بل يدرك النفوس والعقول، فتصبح "تسونامية" أي عنصراً من عناصر اللاتوازن الطبيعي الجماعي والفردي، اختلال الأشياء يتماهى باختلال البشر. باختلال الطبيعة الإنسانية وملكاتها. ونظن أن صناعة الطائفية على أيدي كل من "التسوناميات" إلى لبنان، ليستوعبوا ارتداداتها ونتائجها ويقطفوا ثمارها. وهنا لا يمكن أن نغفل بين التسوناميات الطبيعية (الطوفان، الأعاصير، الزلازل)، بتلك التي تفرزها الطبيعة بظروفها، كالملاريا، والطاعون، والكوليرا... فهذه هي من حيث اجتياحها تلتقي بنظائرها الأخرى المتصلة بالعناصر، وتنتج عنها الأوبئة المعدية، والأمراض الفتاكة، مما يربط الظاهرتين بضعف المواجهة الإنسانية أو بغيابها، وكأنها تصبح قدرية ولازبة أو غضباً إلهياً، أو عقاباً دنيوياً. والقاسم المشترك بين جنون الطبيعة وبين تفشي الأوبئة تسوي من حيث أن الإنسان يجد نفسه عاجزاً عن مقاومة هذه الظواهر. ويمكن من خلال هذا الإطار فهم انجراف لبنان، والعام العربي، والعالم في مذهبيته، أو عنصريته، أو اثنيته التي تعتبر اما من "هبات الله"، وإما من لعناته، ووهن مقاومته. هذه "المنتوجات" توحي أن الإنسان يتمازج بلاعقلانية الكوارث، والتسوناميات، عاجزاً أحياناً ليس عن تفسيرها فقط، بل عن إرادته عدم تفسيرها، ولأسباب عديدة تتصل بأوضاعه وظروفه. اللاعقلانية، العنف، الهوج، الجنون، القسوة، هي مواصفات كل ما تفرزه الطبيعة عن فقدان توازناتها، ويرد عليها الإنسان بمثلها: لا توازن منطقياً، البربرية، العماء، اللارحمة... ليسلطه على من يعتبرهم "آخرين" أو أعداء أو خصوماً... أو يخترع أمثال هؤلاء لتفجير مكنوناته ومكبوتاته وامراضه.
والأوبئة
لكن كأننا هنا "نجرد" هذه الظواهر من تجسيداتها، ونساوي بين الوباء والزلزال، متجاوزين التسوناميات الثقافية، والأيديولوجية، والحزبية، والشخصانية، بل واضعيها في سلة واحدة. قد يكون ذلك صحيحاً، لكن إذا كان التسونامي (كاترينا) من صنع الطبيعة، فإن تلك التسوناميات البشرية من صنع الطبائع، واختلال ملكات النفس، والإنسياق وراء "اللاعقلانية" أو جنون السيطرة، أو النرجسيات على اختلافها. فهتلر هو تسونامي كمفجر العنصرية الآرية ليغزو العالم. وستالين مثله لكن بأيديولوجية أخرى تخفي وراء عموميتها وعالميتها، أهداف الهيمنة. وكذلك ماو تسي تونغ: تسوناميه واجهة ثقافية، لتدمير كل مختلف عنه. وكذلك الخمير الحمر... وصولاً إلى خامنئي، الذي يريد أن يقيم هلالاً شيعياً، يحطم عبره الكيانات العربية... بأدواته وجيشه وحرسه... لكن المسألة ليست في ما يريد رأس التسونامي بل بيسر اجتياحه مشاعر الجماهير والشعوب، واستجابتها له، من دون معالجة، أو مراجعة، أو مناقشة تلك المقولات الاستبدادية أو العنصرية.
فالتسونامي أشخاص. ويمكن اليوم أن نشير بإصبعنا إلى ترامب، الذي وصفته الصحافة الأجنبية بـ"تسونامي": وتسأل: كيف لمهرج، أمي، تافه، نصاب، أن ينجح في زرع أوبئته العرقية، ولا معقوله، ولاعقلانيته، في نفوس ملايين من بلاد عرفت بالديموقراطية، والمحاسبة، والتدقيق... وهذا ما ينطبق على مارين لوبان ذات الأفكار الأقل من متواضعة، والأكثر من عنصرية، أن تحول هذه "الحالات" وكأنها أوبئة مُعدية، تستبيح المنطق والعقول؟
ونعود إلى لبنان، بلد "التسوناميات" التاريخية، وحاضن العديد الخارجي منها، لنجد كأن بورصته في هذا النوع من العملة المزيفة، كأنها باتت من طبائعه، وعناصره، ومكونانه: فقد استقبل وعلى امتداد أكثر من 150 عاماً الكثير من التسوناميات المذهبية، وعانقها، وحملها منقاداً لها وكأنها "نعمة" إلهية. يأتي ميشال عون فيصير تسونامي ويشرّف السيد حسن نصرالله فيصير تسونامي... على هدي ما مرّ بنا من تسوناميات خارجية.
بل أكثر: بات عندنا أناس يصفون أنفسهم بفخر بـ"التسونامي"... أف! سواء كانوا في ثنائيات مذهبية (إلغائية) أو ثلاثيات طائفية. وقد تناسوا أن هذه العبارة لا تعني سوى جنون الطبائع، والعناصر، والدمار، والطوفان، والأوبئة... فكأن بعضهم يفتخر بكونه "تسونامي" كمن يفتخر بكونه نشر الكوليرا أو الطاعون... السرطانات!
إنه زمن مضحك حقاً، وصل الأمر ببعض الخرافيين، ومجانين السلطة، أن يلقبوا أنفسهم بالتسونامي... أو بالطاعون!
حقاً أنهم يشبهون من يلقبون أنفسهم به!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك