غالباً ما "تأكل" الأحزاب مناضليها، حتى أولئك الذي يسقطون، كما اصطلح على تسميته، على "مذبح الوطن". وثمّة "شهداء أحياء" يسقطون على مذبح الحزب والزعيم، وغالباً ما يرفضون الانسلاخ عنهما فيصبح جسدهما واحداً ولا يُذكر "المناضل" إلا ويُذكر معه الزعيم.
وثمّة أيضاً من اختار هذه "الشهادة" فناضل الى أقصى الحدود، من دون أن يبحث عن موقع أو يسعى الى دور أو يربط بين نضاله وبين أيّ مكسب. في الأحزاب اللبنانيّة نماذج كثيرة اخترنا منهم اثنين.
ترسّل رمزي كنج، ابن الطائفة الشيعيّة، للتيّار الوطني الحر وقبْل أن يكون من هيئته التأسيسيّة كان مناضلاً وزّع المناشير وباع الخضار والكعك كنوعٍ من أنواع مقاومة الوجود السوري في لبنان. لم يكن سهلاً أن ينشط شابٌ شيعي بشكلٍ فاعل في صفوف تيّار معارض لسوريا ولحلفائها في لبنان، وفي طليعتهم الثنائي الشيعي "أمل" وحزب الله.
خرج كنج من بيئته الطائفيّة والسياسيّة وتحدّاها، ودفع أكثر من ثمن. زرع نضالاً، وسمّى ابنه "نضال"، ولم يحصد منصباً. دفع مالاً وقدّم جهداً وتضحية، وكان من بين الحالمين بأن يكون ميشال عون رئيساً، وربما لم يزل في عمق أعماقه، ولو عبّر أخيراً عن ملاحظات تستحقّ النقاش والاستيعاب.
فمسيرة رمزي كنج، ومن هم مِن أمثاله في الأحزاب، لا ينهيها مقال أو تعليق "فايسبوكي"، بل هو غنى لأيّ حزب ومفخرة لأيّ زعيم، ليس فقط لما يملكه من مآثر حزبيّة بل، خصوصاً، من صفاتٍ إنسانيّة قد تكون، أمام بعض ما نراه على مواقع التواصل الاجتماعي، عملة نادرة في الأحزاب التي تشكو من كثرة التطرّف و... التصفيق.
باختصار، رمزي كنج "راهبٌ شيعيّ" في التيّار الوطني الحر، ونذره مؤبّد فيه ولعلّ وجوده، مع آخرين، من علامات علمانيّة "التيّار" التي فقد بعضاً منها في العامين الأخيرين. وهو، ومن دون أن ينتقص من إسلامه، منفتح على المسيحيّة ويحفظ القدّاس الماروني والترانيم، ومن هو مثله، في أيّ حزب، يستحقّ "الطوبى" والتكريم لا التحجيم...
"قلب معراب"
حين كان سمير جعجع في السجن، كانت أنطوانيت جعجع من بين قلّة تؤمن بأنّ "حكيمها" سيخرج يوماً ما الى الحريّة، والى أكثر منها. لرئيس "القوات" عشرات آلاف المناصرين، ربما نحتاج الى جمع مقدار محبّتهم معاً كي ينافسوا أنطوانيت جعجع على محبّة هذا الرجل الذي يشعر سامعها بأنّها في حالة انخطاف حين تتحدّث عنه.
يُقال، ممازحةً، عن بعض العازبين، إنّهم تزوّجوا "القضيّة". إلا أنّ أنطوانيت جعجع فعلت ذلك بالممارسة. المرأة التي كانت ترتدي الأسود غالباً، وكانت ملامحها تميل الى القسوة في فترة سجن جعجع، عادت إليها الروح بعد خروجه، وخصوصاً بعد انتقالها الى "بيت الطاعة" القوّاتي في معراب، فباتت مبتسمة دوماً وترتدي الألوان الزاهية، وقد فقدت الكثير من وزنها لتكلّل "النقلة النوعيّة" شكلاً!
ولعلّ الاطلاع على سيرة أنطوانيت جعجع في "القوات"، وما ضاع، إن صحّ الفعل، من عمرها في النضال فيه، وما ذرفت من دموع على خسارة شبّان في الحرب، وما عاشته من حرقة قلب على سجن قائدها، يجعلنا لا نتردّد في الحكم على استثنائيّة هذه المرأة ليس لإنجازٍ حقّقته أو لموقف سجّلته، بل لقلبها الكبير.
والأحزاب، أيضاً، تحتاج الى قلوب... لكي تبقى وتستمرّ!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك