يبدو ان عدداً لا يستهان به من السياسيين والاعلاميين وقسماً مهماً من اللبنانيين صاروا مثل "جحا"، الذي اشتهر بأمور كثيرة، أبرزها انه كان يطلق أحياناً "كذبة" معينة للتخلص من اناس كانوا يضايقونه او يطالبونه بحق لهم في ذمته، وانه كان ينسى ما حصل ثم يُصدِّق الكذبة، وخصوصاً اذا رأى الناس مهرولين إما للتأكد منها او للحصول على ما يؤمل من مكاسب منها، فيبادر الى الهرولة معهم.
وكي لا يبدو هذا الكلام نظرياً، ولا يعتقدَ أحد ان الهدف منه الانتقاص من قدر أحد أو من قيمته، نبدأ بالحديث عن "الثلث الضامن" في الحكومة التي يعمل رئيس الوزراء المكلف نجيب ميقاتي لتذليل عقبات تأليفها. وهو "الثلث" الذي خرج به اللبنانيون المتخاصمون من "اتفاق الدوحة" عام 2008، وفي ظنهم انه سيكون الضمان للوحدة الوطنية والشراكة في الحكومة والاستقرار الحكومي، والذي تأكد لهؤلاء بعد تجربة حكومتي فؤاد السنيورة ثم سعد الحريري انه "ثلث معطل" وليس ثلثاً ضامناً. ذلك انه عطل الحكومتين المشار اليهما وشلّهما، واوصل البلاد الى انقسام عمودي خطير، بل الى شفير فتنة مذهبية، والى انقلاب دستوري على الثانية منهما لا بد ان يأخذ البلاد، ولمدة طويلة في حال استمراره، الى غالب ومغلوب، هي التي تمسكت طويلاً وبعد كل الأزمات والحروب والفتن التي مرَّت بها بصيغة الـ"لا غالب ولا مغلوب"، واستعملتها دائماً لاستعادة الامن والاستقرار. هذا "الثلث" يطالب به الآن سياسيون واعلاميون لرئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان. أي يطالبون بانتزاعه من الافرقاء السياسيين وتخصيص بعبدا به، كون سيدها حَكَماً بين اللبنانيين بموجب الدستور اللبناني، وحكيماً، كما تبين اثناء معالجته اوضاع الشوارع اللبنانية الملتهبة بعد استشهاد الرئيس الحريري، واثناء توليه قيادة الجيش. طبعاً يحق لهؤلاء ان تكون لهم مطالبات عدة لا واحدة فقط. لكن عليهم، وهم الخبراء الذين علمتهم متابعتهم لأوضاع لبنان وسياساته وتطوراتها، وكذلك مشاركتهم فيها، ان "لا يدفنوا روؤسهم في الرمال" مثل النعامة بمطالبة أو مطالبات يعرفون قبل غيرهم إما استحالة الاستجابة لها، أو عدم مساهمتها في ايجاد الحلول المطلوبة، فـ"الثلث" الضامن - أو المعطل - يعني اعطاء رئيس الجمهورية السلطة الأهم في مجلس الوزراء، وهذا أمر يخالف الدستور، الذي رفع الرئيس فوق الجميع أي جعله رئيساً للجميع بمن فيهم رئيسا مجلسي النواب والوزراء، والذي ناط السلطة التنفيذية بالحكومة مجتمعة، وليس برئاسة الجمهورية كما كانت الحال قبل اتفاق الطائف. وهذا أمر يخالف رغبات وطموحات الاطراف السياسيين الفاعلين الذين يريد كل منهم ان تكون السلطة له كاملة، والذي يريد، اذا تعذر عليه ذلك، سلطة تعطيلية وفّرها اتفاق الدوحة من خلال الثلث المعطل. وهذا أمر قد لا يستسيغه رئيس الوزراء المكلف، وخصوصاً اذا نجح في تأليف حكومته، ذلك انه ليس زعيم اكثرية نيابية لها الحق في الاستئثار بتمثيل حكومي ذي غالبية موصوفة. بل هو رئيس حكومة غير توافقية بالمعنى الذي تعارف عليه الجميع في الدوحة، اي رئيس حكومة اللون الواحد او الغالبية الجديدة التي ليس هو زعيمها او المقرر الحاسم فيها. علماً انه لا يدَّعي هذا الأمر، ويفاخر بأنه وسطي أي ينتمي الى الاعتدال انطلاقاً من القول المأثور: ان خير الأمور الوسط. وفي أي حال يقال ان الرئيس سليمان فاتح مسؤولاً كبيراً في امر امتلاكه ثلثاً حكومياً معطلاً اثناء جلسة تشاورية معه، الا ان رد الفعل "الإيمائي" للأخير وما رافقه من كلام غير مباشر جعله يمتنع عن مواصلة البحث في هذا الموضوع. الا انه استمر موضع تداول في الاعلام وفي الاوساط السياسية.
الى ذلك كله، يمكن الاشارة الى ان تجربة امتلاك رئيس الجمهورية حصة حكومية لم تكن مشجعة، رغم ان قانونية هذا الأمر أو مشروعيته مشكوك فيها. ولا أدعي انني متضلع في القانون. لكن العمل والمتابعة جعلاني أعرف ما اذا كانت هذه التجربة السياسية او تلك مشجعة أم لا. فمن جهة، لم يكن اختيار الرئيس لعدد من وزرائه الخمسة في حكومَتَيْ ما بعد الدوحة موفقاً، ليس من ناحية "الآدمية" والعلم، ولكن من ناحية الخبرة والاحتراف السياسي وامتلاك روح المبادرة. ومن جهة ثانية نمّى اختياره للبعض طموحات سياسية عنده جعلته يتلوّن في السياسة وإن ازعج ذلك الرئيس لأسباب معروفة. ومن جهة ثالثة اعتبر بعض من اختاره انه شريك للرئيس وليس ممثلاً له في الحكومة، ربما اقتناعاً منه بأن دوره كان اساسياً في ايصاله الى قصر بعبدا. ومن جهة رابعة لم يكن بعض من اختارهم الرئيس وزراء له بل لغيره. وسواء عرف ذلك وقَبِله أو عَرفَه وتجاهلَه او لم يعرفه، فإن النتيجة كانت واحدة.
طبعاً، قد يقول البعض من اللبنانيين انه لا بد من "ثلث معطل" أو "ضامن" وان في حكومة اللون الواحد أو الغالبية الجديدة. وقد يقترح ان يكون هذا الثلث من وزراء رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة معاً. وأمر كهذا قد لا يقبله رئيس الحكومة لأنه يحدُّ من دوره وصلاحياته، وان قَبِلَه رئيس الجمهورية. لكن هناك فريقاً آخر لن يقبله بالتأكيد هو الغالبية الجديدة التي حدّدت من زمان ماذا تريد من الحكومة، والتي تصر على امتلاك الاكثرية الحكومية الموصوفة التي تمكِّنها من تحقيق أهدافها من دون المغامرة بالاعتماد على رئيس حكومة أو وزراء قد لا يمشون معها رغم انها ورعاتها الاقليميين من أوصلهم الى جنة الحكم.
هل هناك "أوهام" اخرى يتعلق بها البعض ويطالب بها في الاعلام والدوائر السياسية؟
نعم، هناك وهم "الوسطية". والوهم فيها ليس نابعاً منها - وهي مفهوم محترم ومحبّذ -، بل ممن يضعهم البعض المذكور في خانتها (أي الوسطية). فالزعيم الدرزي الابرز وليد جنبلاط ليس وسطياً، ولا يستطيع ان يكون وسطياً في المسائل الدقيقة والخطيرة. وهذا ما حصل اثناء استشارات التكليف. والرئيس ميقاتي كان وسطياً لكنه ظل سنوات قريباً من 14 آذار. وهو الآن يقترب من 8 آذار. وسيكون عليه ان يبقى قريباً منه اذا اراد تشكيل الحكومة واستمرارها. والنواب الذين يحكون عن الوسطية في هذه الأيام، ربما تبريراً للحصول على مقعد وزاري، كانوا دائماً في 14 آذار أو قربه وقبولُهم في الحكومة سيرتب عليهم "اعباء"، مثل تغيير جذري في المواقف السياسية.
في اختصار، ليس الهدف من كل هذا الكلام النيل من احد. فالاحترام للجميع كبير عندي كما عند الكثيرين. بل هو دعوة المعنيين الى الصراحة والصدق والتخلي عن الاوهام. وهذه الصفات الثلاث المهمة لا تنقذ البلاد، بل ربما تساعد في انقاذها، في حين ان الاوهام تدفعها الى مهاوي الفتنة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك