بين أن يكون لبنان بلد هجرة، أو أن يكون بلد الاستيطان الذي رفضه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، فرق كبير. لأن لبنان اليوم يتحول تدريجاً إلى بلد استيطان لمئات وآلاف غير اللبنانيين المنتشرين في محافظاته كلها، فيما هو يبحث عن أبنائه في بلاد الانتشار.
يعيش لبنان اليوم مرحلة النزوح السوري، وسط مطالبة بتنظيم هذا النزوح وعودة من يقدر من النازحين الى بلادهم من جهة، وحملة مناهضة تشنها جمعيات حقوق الإنسان ومتضامنون معها لأسباب سياسية تغلب في كثير من الأحيان على الدوافع الإنسانية، من جهة أخرى.
لكن ملف النزوح السوري، على خطورته وضرورة معالجته بجدية بعيداً عن الشعارات والشعارات المضادة، ليس سوى أحد الوجوه الأساسية التي تطبع هوية لبنان ووجوده ومستقبله والمشكلات الاجتماعية والأمنية المتراكمة من دون حلول جذرية
في كلمته في القمة العربية التي انعقدت في عمان في آذار الماضي، عبّر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون عن رفض التوطين بمختلف وجوهه، مشيراً إلى أن لبنان بلد الهجرة لا يمكن أن يكون بلد الاستيطان. هذه الحقيقة العلمية التي يدركها خبراء في الديموغرافيا والتاريخ، نظراً الى وضع لبنان ومحدودية موارده الطبيعية والخضات الأمنية التي يعرفها كل عقد من الزمن، تحولت اليوم عكسياً، إذ بات لبنان بلد الاستيطان لجنسيات من 188 دولة، عدا عن النزوح السوري والفلسطيني الكثيف، علماً بأن مرسوم التجنيس الرقم 5274 الصادر في 20 حزيران 1994 جنّس 220 ألفاً غير لبنانيين، أصبح عددهم اليوم بين 350 ألفاً و400 ألف.
من يعيش في لبنان، ومن هم سكانه فعلاً، ومن الذين يتملّكون فيه، ومن هم الذين يقبعون في سجونه، ومن الذين يدخلون إليه ويخرجون؟
قد يكون مسلسل الجرائم الأخيرة التي اشتبه بأن نازحين سوريين كانوا وراءها، فتح العيون أكثر على هذا الملف الحساس. لكن لبنان يعيش منذ سنوات على إيقاع فتح ملفات حساسة ومن ثم إغلاقها، من دون معالجتها بجدية. هكذا فتح ملف تملّك الأجانب في لبنان، وملفات بيع الأراضي لغير اللبنانيين، ونشرت إحصاءات عن الأراضي والشقق والأبنية التي بيعت بالمئات في مختلف المحافظات. وهذا الملف يفترض أن يعني جميع اللبنانيين، لجهة الحفاظ على الأرض كجزء من الحفاظ على الهوية، ولا سيما أنه لا يستهدف فئة أو طائفة، ويتناول حصراً حركة البيع لغير اللبنانيين وليس حركة بيع الأراضي داخلياً، والضجة التي أثيرت حولها لاعتبارات طائفية ومذهبية. وقد أشارت دراسة أجراها المركز الماروني للتوثيق والأبحاث حول تملك الأجانب في لبنان عام 2010 الى أن السعودية والكويت وقطر والإمارات تتصدر قائمة هؤلاء، فيما ساهمت الحرب السورية في رفع نسبة تملك السوريين عقارياً.
وفي وقت يعيش فيه لبنان هواجس مختلفة، ينبغي السؤال عن كيفية مقاربة الوضعين السياسي والأمني من دون تشريح «البنية التحتية» لسكان لبنان: من يعيش فيه وأين، وما هي نسب الجرائم، وما هي الآثار التي يخلفها وجود جنسيات متنوعة على هذا البلد، ولا سيما بعدما تبين أن نحو ثلاثة ملايين غير لبناني يعيشون على أرضه، وهم يضيفون الى البلد مشكلات وأعباء في مقابل الخدمات التي يقدمها العمال منهم، علماً بأن قطاع العمالة الأجنبية يحتاج هو الآخر الى تنظيم وإلى إحصاءات دقيقة وضبط الأجهزة الرسمية المختصة له.
عرف لبنان موجات استقبال لاجئين متعددي الجنسيات. فهو شهد أولاً موجات اللجوء الفلسطيني منذ نكبتَي 1948 و1967، ومن ثم المرحلة التي تلت أيلول الأسود، والموجات اللاحقة والترحيل خلال حرب لبنان الطويلة، وصولاً الى حرب سوريا التي ساهمت في هجرة جديدة للاجئي مخيمات سوريا من الفلسطينيين، وهم أيضاً نوعان: مسجلون لدى وكالة «أونروا»، وغير مسجلين.
ثم أتت موجة الهجرة العراقية، التي تمت على مرحلتين: ما قبل سقوط الرئيس العراقي صدام حسين وما بعده، إضافة الى حركة تهريب ناشطة من دول أفريقية عبر شبكات متخصصة، كما كانت حال العمال المصريين الذين كانوا يتسللون من مصر والسودان الى سوريا فلبنان، قبل الحرب السورية، وصولاً الى النزوح الكثيف للسوريين الى لبنان، وهم أيضاً فئتان: المسجلون لدى الوكالات الدولية وغير المسجلين، عدا عمّن دخلوا في صورة شرعية ومن دخلوا في صورة غير شرعية ممن يصعب إحصاؤهم.
في موازاة اللجوء، فتح لبنان حدوده للعمالة الأجنبية، التي بدأت في الثمانينيات بتقطع وتطورت لاحقاً الى عمالة منظمة وموسعة حين ارتفع عدد البلاد التي يستقدم منها لبنان، عبر وزارة العمل ومكاتب الاستخدام، آلاف العمال، ويضاف إليهم العمال غير الشرعيين أيضاً.
يحصي الأمن العام اللبناني وجود العرب والأجانب في لبنان وفق الإقامات الصالحة وغير الصالحة (أي التي لم يجدد أصحابها إقاماتهم رسمياً). والإحصاء الذي حصلت عليه «الأخبار» يبين الآتي:
يوجد في لبنان 329,648 عربياً وأجنبياً من ذوي الإقامات الرسمية وغير الرسمية. وهذا لا يشمل بطبيعة الحال النزوح السوري أو الفلسطيني أو العراقي أو الداخلين خلسة والمقيمين من دون إقامات. ويبلغ عدد الدول التي لها رعايا في لبنان، بإقامات صالحة أو غير صالحة، 188 دولة من أذربيجان الى أريتريا وأفريقيا الوسطى والجزائر والأردن وباكستان وتايلاند وبوركينا فاسو ورومانيا وشاطئ العاج والكاميرون وغامبيا ونيجيريا وغيرها.
أما الجنسيات الأكثر عدداً في لبنان فهي: إثيوبيا (154,963)، بنغلادش (74012)، الفيليبين (24875)، مصر (21675)، سريلانكا (10733)، الهند (9733)، السودان (2955)، كينيا (2548)، غانا (2312)، نيبال (1737)، الكاميرون (1392)، توغو (1303)، جزر الملغاش (1248).
ويشير تعداد الأمن العام الى وجود فلسطينيين من سوريا ولبنان ومصر واليمن، وتختلف طبيعة الفئات التي ينتمي إليها المسجلون بين فئة أولى وثانية وثالثة، وتعنى الأولى بالموظفين في شركات أو أصحاب عمل برخص رسمية (مثلاً الولايات المتحدة 365، وبريطانيا 312، وفرنسا 396).
وبحسب الأمن العام، يبلغ عدد السوريين الذين يملكون وقوعات رسمية 1,312,268. وهؤلاء لا يحتسبون من ضمن الحاصلين على إقامات، وهم بطبيعة الحال من النازحين.
في المقابل، يظهر إحصاء رسمي حصلت عليه «الأخبار» من مصادر أمنية رسمية المعطيات الآتية:
ــــ حتى أيلول 2017 أحصي دخول 1,800,000 نازح سوري وفلسطيني دخلوا شرعياً الى لبنان عبر المعابر الحدودية. ولم يتم إحصاء النازحين غير الشرعيين.
ــــ يقطن نحو 275 ألف نازح في 1200 مخيم موزعين في كل المحافظات. ويوجد في بيروت 5 آلاف نازح، وفي جبل لبنان سبعة آلاف، وفي الجنوب 26 ألفاً، وفي البقاع 125 ألفاً، وفي الشمال 26 ألفاً. والمفارقة، بحسب الإحصاء الرسمي، أن 55 في المئة منهم يقيمون في شقق ومنازل و15 في المئة في مخيمات، والبقية موزعون في مواقع عمل ومبان مختلفة.
ــــ يقدر الإحصاء الرسمي عدد النازحين السوريين الفعلي بنحو مليوني نازح، يضاف إليهم أكثر من 500 ألف فلسطيني، علماً بأن وكالة «أونروا» تقدر فقط عدد الفلسطينيين المسجلين في لبنان بـ 449,957 لاجئاً مسجلين رسمياً. وفيما لا تسجل أي جهة أعداد العراقيين، تتحدث معلومات غير رسمية قريبة من الكنائس التي ينتمي إليها عراقيون مسيحيون لاجئون ومؤسسات دولية عن أن الرقم لا يقل عن عشرة آلاف، فيما تتحدث مؤسسات رسمية عن أعداد تراوح بين 20 و25 ألفاً، ما يجعل عدد الموجودين غير اللبنانيين في لبنان أكثر من ثلاثة ملايين أجنبي.
يحتم وجود هذا الكم من الجنسيات الحاجة الى تنظيم وإلى دراسة علمية وأمنية واقتصادية شاملة، علماً بأن الأبرز المتداول اليوم يتعلق بالجرائم التي ترتكب. وبحسب إحصاءات أمنية رسمية، فإن عدد الموقوفين السوريين بجرائم منذ اندلاع الأحداث السورية وحتى أيلول 2017 بلغ أكثر من مئة ألف. وبلغ عدد الموقوفين السوريين في الأشهر العشرة الأولى من عام 2017 نحو 45 ألفاً بشبهة التورط في إطلاق نار وترويج عملة مزورة وسلب وخطف ومخدرات وتهريب وعدم حيازة أوراق ثبوتية. لكن ليس جميع هؤلاء مسجونين. فالكثيرون منهم يطلقون لاحقاً بعد إحالتهم الى القضاء وإتمام الإجراءات القانونية، ولا تشمل التوقيفات السوريين فحسب. فبيانات الأمن العام الشهرية تظهر مقارنة بين دخول موقوفين من جنسيات مختلفة الى دائرة التحقيق والخروج منها. فعلى سبيل المثال، أوقف بين 15 آب و15 أيلول 2513 شخصاً، فيما خرج 2255. أما الإحصاء الرسمي لوزارة الداخلية فيورد الآتي: «يوجد في سجون لبنان حالياً 4 آلاف لبناني، و1700 سوري و987 ينتمون الى جنسيات مختلفة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك