كم كان عظيما ً ذلك الحدث الذي وقع يوم الأول من أيلول 1920 باعلان "دولة لبنان الكبير" ، ليس فقط بما احتواه من تأكيد على حدود لبنان السياسية ، من الناقوره جنوبا ً الى النهر الكبير شمالا ً ، بل ايضا ً وخصوصا ً بتأسيسه لأوّل دولة مدنية في هذا الشرق ، دولة لا تلتزم ديانة معينة بقدر ما تحترم كل الأديان .
والحق يقال ان تأسيس الدولة اللبنانية ، قبل ما يزيد على تسعين عاما ً ، كان مغايرا ً لما هو سائد في هذه المنطقة ومخالفا ً ، وبمعنى من المعاني غريبا ً الى حدّ الاستفزاز . فالمنطقة العربية في صورة عامة ، منطقة اسلامية برمتها ، والدولة دولة الخلافة أو دولة اسلامية يجب أن تكون، أو يفترض أن تكون . واذا كان من أقلّيات غير اسلامية ، فلها أن تعيش في ظل ّ الدولة الاسلامية وحمايتها ، أو تسامحها في أحسن الأحوال ، تسامحا ً تارة يتسع وطورا ً يضيق ويختفي . تماما ً كما هي حال الأقلّيات غير المسيحية في الدولة المسيحية ، ماضيا ً وحاضرا ًوفي كل حين . فالدولة التي تلتزم ديانة معينة ، مسيحية كانت أو اسلامية ، هي لا بد ّ منتقصة من حرية من ليس على دينها وكرامته ولا مفر ّمن ذلك .
وغني عن القول ان من الأسباب التي أدّت الى نشوء الكيان اللبناني هو هذا السبب . وربما لهذا السبب أيضا ً كان توصيفه بالخطأ التاريخي أو بالكيان الذي هو من صنع الاستعمار . لكنّه ، في النهاية أو في المحصلة كان انجازا ً تاريخيا ً وعظيما ً . وليس قليلا ً أبدا ً أن تقوم في هذا الشرق ، وقبل تسعين عاما ً ، دولة ، بدل أن تلتزم ديانة معينة كما هو سائد ، تجعل من حرية المعتقد والضمير أساسا ً لوجودها ، حرية مطلقة تتعدّى ممارسة الشعائر الدينية الى ما هو أهمّ وأعمق ، وحيث المرء هو حرّ في أن يؤمن أو لا يؤمن ، بل أن يغيّر دينه أو معتقده متى يشاء وكيفما يشاء ، وبحسب ما يوحي به اليه ضميره .
وفي كل الأحوال الشخص البشري هو القيمة المطلقة في المجتمع ، وقبل المجتمع ، وأحيانا ً ضدّ المجموع ، وعلى قاعدة ان لا معنى للسيادة والاستقلال والدولة والقومية وما الى ذلك من عناوين اذا لم تكن في خدمة الشخص وحريته وكرامته . وهذا ما جعل لبنان ، بالفعل، بلد حريات ، أو كما يقال بلد الكتاب وصحيفة الصباح ، بل أن تصبح الحرية ملازمة للحياة في كل مجالاتها ، بل ملتصقة بكينونة الانسان في جوّانيته ، يتنشّقها كما يتنشّق الهواء . هذا بغض ّ النظر عن أحوال الدولة المعتدى عليها وعلى معنى وجودها وهذه الفوضى التي تعمّ البلد من أقصاه الى أقصاه . لقد ألف المرء في لبنان أن يعيش في حرية ، حرية زائدة أحيانا ً، أو بالأصح : "كثير من الحرية وقليل من الديموقراطية" على حدّ قول الرئيس سليم الحص ، وهذا صحيح، وصحيح أيضا ً ان اللبناني يطالب بالشيء وعكسه ، بالسلطة القوية والحرية في آن واجد أو بالأمن والحرية معا ً رغم صعوبة الجمع بينهما في بلد مثل لبنان . يختلف اللبنانيون على كل شيئ ربما ولكن ليس على الحرية ، ولم يكن هذا كلّه مصادفة . والصحيح أن الأمر تطلّب تسعين عاما ً من المقاومة المستديمة ، والشرسة أحيانا ً ، لشتى الايديولوجيات وأنواع الضغوط المادية والمعنوية التي مورست على هذا البلد بغية "تعريبه " تعريبا ً كاملا ً شاملا ّ، وبما يعنيه هذا التعريب من تغيير في هوّيته ، وازالة ما هو مختلف في وجوده السياسي ، بل الغاية من هذا الوجود ماضيا ً وحاضرا ً ومستقبلا ً .
أمّا الطريف فهو أن يأتي مشروع كتاب التاريخ المعروض الأن كمحاولة للتوحيد والصهر في البوتقة الواحدة كما يقال ، خلوّا ً من أي اشارة الى هذه المقاومة ، بل لاغيا ً لوجودها جملة وتفصيلا ً كما لو انها خطيئة أو عيب من العيوب التي ينبغي التبرّؤ منها . الأمر الذي يؤكّد الحاجة الى استمرارها ، وعلى قاعدة ان الاستقلال اللبناني هو عملية خلق لا تنتهي ، وبخاصة ان "الثورات " المتنقلة من بلد عربي الى آخر لم تحسم أمرها من هذا القبيل ، ولا تجرّأت حتى الآن على شطب هذه المادة من الدساتير المتجدّدة والقائلة بالاسلام دينا ً للدولة ومصدرا ً للتشريع والفتاوى على أنواعها
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك