سنة بعد انتخابه، لا يزال البطريرك الماروني الأكثر إثارة للجدل. في موقع بكركي أو في مواقفه. لم يعد الصرح على صورة سلفه. البعض يصف الثوابت الجديدة بجرعة زائدة، والبعض الآخر بانقلاب غير محسوب، والبعض الثالث يراها تدفع إلى مواجهة. لكن البطريرك لا يتزحزح عنها
لم يؤل الالتباس الذي أحاط ببيان القمّة الروحية المسيحية _ الإسلامية في بكركي، الأحد، إلى صدمة للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بسبب تحفّظ شيخ عقل الطائفة الدرزية الشيخ نعيم حسن عن الفقرة المتعلقة بسوريا في البيان الختامي، مرتين على التوالي: أولى عند قراءته، وثانية بعد صدوره. لم يكن في الإمكان أفضل ممّا كان للمرجعيات الدينية على الأقل كي تخوض في المسألة السورية، فشكلت هذه مصدر تباين مرده إلى مقاربة مختلفة لكل من تلك المرجعيات حيال هذه المسألة، اختلط فيها الموقف السياسي بالإرشاد الديني.
دوافع أخرى سوى الفقرة تلك سبّبت الالتباس، كانت قد رافقت انعقاد القمّة الروحية وأبرزها العجلة في الاتفاق عليها، ثم العجلة في تحديد المكان، ثم العجلة في وضع البيان، ثم العجلة في إعلانه. وهكذا طبعت العجلة القمّة من غير أن تؤثر كثيراً في نتائجها.
طُرح انعقاد القمّة للمرة الأولى إبان زيارة البطريرك أبرشية بيروت للموارنة، في شباط، في نطاق تحرّكه على أبرشيات الكنيسة، عندما اقترح موعدها في 25 آذار، في الذكرى الأولى لحبريته وعيد البشارة. حُكي بداية عن انعقاد القمّة في مدرسة سيدة الجمهور في مناسية عيد البشارة. تبيّن لاحقاً أن من غير الملائم انعقادها في المدرسة، غير المعنية بتوجيه الدعوة إليها ورعايتها، فانتقلت القمّة إلى بكركي.
بدورها انتقلت العجلة إلى البيان فأعدّ، ولم يُتح لرؤساء الطوائف الإسلامية الاطلاع عليه مسبقاً وإبداء الملاحظات، رغم أن التحفّظ صدر عن شيخ العقل وحده دون مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان اللذين لم يُدوّنا أي اعتراض على الفقرة السورية في البيان الختامي. في وقت لاحق من المداولات، سجّل القاضي عبّاس الحلبي اعتراضه على الفقرة المتعلقة بالمسألة السورية، عندما طالب بإدراج تأييد مبادرة الجامعة العربية (22 كانون الثاني 2012) في البيان الختامي بسبب تضمّنها مطالبة الرئيس بشّار الأسد بالتنحّي وتوجيه الاتهام بممارسة العنف إلى النظام دون أفرقاء المعارضة المسلحة. كانت بكركي قد لاحظت أن رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط لم يكن يرغب في مشاركة شيخ العقل في القمّة.
وخلافاً لمسودة البيان التي أعدّها الصرح، الرامية إلى تأييد مبادرة الموفد الدولي _ العربي كوفي أنان التي تحظى بدورها بتأييد الجامعة العربية، قرن الحلبي الموافقة عليه بحصر التأييد بمبادرة الجامعة أو في أحسن الأحوال إيلائها صدارة التأييد. لم يُجار قباني وقبلان وجهة النظر الدرزية التي طرحها الحلبي، رغم تحبيذهما بياناً ختامياً بعيداً عن التسييس. إلا أن شيخ العقل أصرّ على هذا الموقف ملوّحاً بالانسحاب إن لم يؤخذ به، متبنّياً رأي الحلبي بقوله للمجتمعين إنه يمثل الطائفة في لجنة الحوار المسيحي _ الإسلامي، وهو يؤيد ما يقوله.
حتى ذلك الوقت كان الحلبي قد أجرى أكثر من اتصال هاتفي بجنبلاط.
في مستهل القمّة الروحية حبّذت المرجعيات الإسلامية الثلاث بياناً ختامياً ذا منحى روحي يتجنّب الموقف السياسي. إلا أن الخوض في موضوعي سوريا وإسرائيل أخرجاه عنه، عندما طلبت المرجعيات الثلاث تلك تسمية إسرائيل بـ«العدو ». فقدت المناقشة عندئذ منحاها الروحي كي تتحوّل سياسية بحتة. إلا أن البيان الختامي صرف النظر عن تأييد مبادرتي الجامعة العربية وأنان، واكتفى بموقف عام من المسألة السورية اقتصر على إدانة العنف وسقوط الضحايا والدعاء بحفظ أمن سوريا ووحدتها. لم يترك هذا الخلاف أثره على الغداء الذي تبع القمّة الروحية. لكن شيخ العقل أصدر في ما بعد بيان التحفّظ.
لم تفضِ قمّة بكركي إلى أزمة، ولا سبّبت صدمة لدى البطريرك الذي يُواجه منذ انتخابه، قبل سنة، أكثر من تحفّظ وردود فعل من أفرقاء لبنانيين، مسيحيين خصوصاً، على مواقفه من سوريا بداية، عندما أعلن _ بعيد انتخابه _ استعداده زيارتها وتفقّد الأبرشيات المارونية الثلاث في دمشق وحلب واللاذقية ومقابلة الرئيس السوري، ثم إبان أزمتها بدءاً من زيارته باريس في أيلول 2011 وصولاً إلى الأمس القريب.
منذ مواقفه الأولى، نَظَرَ بعض أفرقاء 14 آذار إلى بكركي على أنها تجري إعادة تموضع موقعها السياسي الذي خبروه في ظلّ سلف الراعي، البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، وهو انحيازه إلى قوى 14 آذار وتحوّله رأس حربة في النزاع الداخلي على سلاح حزب الله والعلاقات مع سوريا، فضلاً عن دعمه حصول قوى 14 آذار على الغالبية النيابية، وتحذيره عشية انتخابات 2009 من فقدان لبنان هويته في حال خسارتها إياها.
على أبواب خلوة بعيدة عن الأضواء يعتزم الراعي الانصراف إليها مع الأساقفة لتقويم السنة الأولى من حبريته، يضع مواقفه في القواعد الآتية:
1 _ لم تخرج بكركي عن ثوابتها؛ لأن البطريرك هو مَن يضع الثوابت. لكل مرحلة ثوابتها المرتبطة بالتحديات التي كانت تواجهها الكنيسة المارونية في دفاعها عن الكيان والوجود المسيحي فيه. على مرّ حقبهم، طبعت حبرية أسلافه تهديدات وخيارات وتحدّيات كان على الكنيسة تقدّم الصفوف في المواجهة، فاختلف البطريرك مع رؤساء الجمهورية وزعماء وأصرّ على خياراته ودافع عنها وأحالها ثوابت مرحلته، آخرهم صفير عندما قاد منذ عام 2000 معركة إنهاء الاحتلال السوري بعد جلاء الاحتلال الإسرائيلي. في نهاية المطاف كان الجميع يعودون إلى الصرح كي يستظلوه بعد أن يختلفوا مع البطريرك، وكي يتصالحوا مع أنفسهم أولاً.
2 _ تمثّلت إعادة التموضع التي أجراها الراعي في إخراج بكركي من الموقع الذي كانت قد لزمته في السنوات الأخيرة عندما انحازت إلى قوى 14 آذار. بالتأكيد، خسرت قوى 14 آذار المرجعية التي اعتادتها لتبرير مواقفها والاختباء وراءها. إلا أن قوى 8 آذار، وخصوصاً الرئيس ميشال عون، لم يربحها إلى جانبه. اتخذ البطريرك الموقع الوسطي بين الطرفين، وسعى إلى جمع الزعماء المتناحرين أكثر من مرة.
3 _ لا يزال البطريرك على صلة مباشرة بأفرقاء أساسيين في قوى 14 آذار من الذين لا يريدون استثناء أنفسهم من العلاقة مع بكركي، كالرؤساء أمين الجميّل وفؤاد السنيورة وسعد الحريري الذين تطبع الحرارة علاقته بهم. بعدما أوفد نائبه البطريركي المطران بولس صيّاح لتمثيله في احتفال إعلان تيّار المستقبل وثيقته السياسية، خابر الراعي السنيورة والحريري وهنأهما. بيد أن بعض أفرقاء 14 آذار أخرج نفسه من بكركي بعدما اعتاد أن تكون كلمته وحدها المسموعة في أرجائها في مرحلة سابقة. كان البطريرك قد تبلغ عبارة قالها نائب ماروني سابق في قوى 14 آذار لأحد الأساقفة شاكياً: «لم يعد لنا شيء في بكركي».
كذلك حال القوات اللبنانية ورئيس هيئتها التنفيذية سمير جعجع الذي هاجم الراعي في أثناء زيارته مصر، واتهمه بتقويض الوجود المسيحي. ثم استدرك كلامه غير المألوف، والقاسي، كي يعزوه _ في معرض اعتذار غير مباشر _ إلى عتبه عليه. مع ذلك لم تنقطع علاقة بعض نواب كتلة القوات بالصرح، وذهب إليه بعضهم أكثر من مرة لشرح دوافع موقف جعجع، من غير أن يتردّد في القول إنه غالى أكثر ممّا ينبغي في مواقفه.
والواضح أن بكركي تنتظر من جعجع إيضاحات إضافية قبل أن تستقبله. وهو سيكون في حاجة إلى استقبالها إياه كلما اقترب من انتخابات 2013.
4 _ ليس في وارد البطريرك، وخصوصاً مَن يسمعه عن قرب، التراجع عن أي من المواقف التي اتخذها ولا يزال يصرّ عليها. وهو أعاد تأكيدها مراراً في الأشهر المنصرمة رغم بعض ردود الفعل الداخلية والخارجية عليها. يتمسّك بموقفه من الخطر على مصير الأقليات المسيحية في الشرق من صعود التطرّف، وبموقفه من حقوق الشعوب بحريتها وتحديدها مصير أنظمتها بعيداً من العنف، ولكن أيضاً بحماية المجتمعات التعدّدية التي تتكوّن منها، وبرفضه الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية، ويخشى في الوقت نفسه من حروب أهلية ومذهبية أو أنظمة متطرّفة تخلفها. يتشبّث باعتقاده بأن الربيع العربي آيل تحت وطأة العنف وصعود التشدّد إلى خريف عربي حقيقي.
بات أكثر اقتناعاً بأنه على حق في هواجسه ومخاوفه، وصحة مواقفه تلك وصدقيتها. كان قد أطلقها لأول مرة في باريس، وبات الرئيس نيكولا ساركوزي يستعيدها الآن، والعرب والغرب يخشون من حرب أهلية في سوريا.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك