الجمهورية
نواصل في الجزء الثاني من الموضوع عرض مساوئ قانون الإنتخاب الجديد القائم على النسبية على أساس 15 دائرة.
دفع القانون الجديد - كونه لا يفرض أن تحمل كل لائحة اسم حزب معيّن - برؤساء الاحزاب والزعامات التقليدية الى اقامة تحالفات انتخابية ظرفية مستغربة، أي تحالفات "عامودية"، نتج عنها تشكيل لوائح "هجينة" لا يجمع بين أعضائها أيُّ رابط سوى المصلحة الانتخابية وربما أيضاً المال السياسي.
فكيف لمثل هذه اللوائح التي يختلط فيها الحابل بالنابل أن تكون لها برامج انتخابية واضحة ترتكز على مشاريع سياسية تطويرية، لا على مجرد شعارات فارغة، ليفاضل الناخب ( الواعي) بين اللوائح على أساس برامجها لا انطلاقاً من ولاءاتٍ لزعاماتٍ تقليدية وأحزاب طائفية؟
لذا، لا يمكن اعتبار القانون الجديد أنه قانون إصلاحي وأنه سيأتي بالتغيير السياسي الذي يترقبه الناس بل، على العكس، أفرغ الانتخابات من مضمونها السياسي وكرّس العلاقات الشخصية والزبائنية التي ستظل هي محور الحياة السياسية عندنا. واذا كان له من حسنة فإنه فضح الضحل العقائدي للأحزاب السياسية المهيمنة!
وبقوم النظام النسبي على فلسفة سياسية مفادها أن يتمثّل كل حزب في الندوة البرلمانية وفقاً لحجمه التمثيلي، أي بقدر ما يمثل على الصعيد الشعبي. هذا يحصل إذا كان قانون الانتخاب يفرض أن يكون تأليف اللوائح على أساس حزبي، أي أن يتقدّم كل حزب (أو ائتلاف من حزبين، مثلاً، من لون سياسي واحد) بلائحته.
وبما أنّ القانون الجديد لا يفرض أن تحمل اللائحة اسم حزب معيّن كما ذكرنا، أي أنه يسمح بأن تكون خليطاً من مجموعة أحزاب سياسية وأشخاص غير حزبيين من جميع التوجّهات والمشارب السياسية، لا يمكن معرفة الحجم التمثيلي الحقيقي لكل حزب من أعضاء اللائحة إذ قد يفوز حزب بمقعد أو أكثر بفضل شريكه في اللائحة وعلى حسابه.
وأفضل مثل على ذلك الأحزاب والشخصيات التي سيضمّها "الثنائي الشيعي" (حزب الله- أمل) الى لوائحه في مناطق نفوذه وتنجح بفضله.
وتفرض قوانين الانتخاب في بعض الدول التي تعتمد النظام النسبي حصول اللائحة على نسبة معيّنة من أصوات المقترعين ليحقّ لها الاشتراك في توزيع المقاعد النيابية، في حين أنّ قوانين دول أخرى لا تفرض مثل هذه النسبة.
والمثال على ذلك القانون السويسري بما يتعلّق بالمجلس الوطني(الفدرالي)، فهو لا يشترط أيّ نسبة من هذا القبيل. وتتراوح نسبة الاشتراك في معظم الدول بين 2 و 10 في المئة (مثلاً: 2 % في الدانمارك، 5 % في ألمانيا، 10% في تركيا).
ومعلوم أنه كلما كانت هذه النسبة متدنّية كان ذلك في مصلحة الأحزاب الصغيرة لأنه يتيح لها فرصة الاشتراك في توزيع المقاعد بصرف النظر عمّا إذا كانت ستحصل على مقعد نيابي أم لا (هذا يتوقف على الطريقة الحسابية المتذبعة لتوزيع المقاعد)، والعكس صحيح، بمعنى أنه كلما كانت النسبة المشار اليها مرتفعة، كان ذلك في مصلحة الأحزاب الكبرى لأنّ النسبة المرتفعة تؤدّي الى إقصاء الأحزاب الصغيرة من عملية التوزيع.
وفي مثل هذه الحالة يقترب النظام النسبي من النظام الأكثري لأنه يمنع الأحزاب الصغيرة من أن تتمثل في البرلمان. ولقد اعتبرت المحكمة الفدرالية السويسرية (وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد) في عدد كبير من قراراتها أنّ النسبة الإلزامية للمشاركة في توزيع المقاعد التي تزيد عن عشرة في المئة "لا تتفق مع الغاية من النظام النسبي وتُعتبر مخالفة للدستور". أي أنها وضعت سقفاً للنسبة الإلزامية للاشتراك في التوزيع هو عشرة في المئة كحدّ أقصى وإلّا انحرف النظام النسبي عن هدفه.
وبالعودة الى قانون الانتخاب الجديد، فقد فرض على اللائحة لتشترك في توزيع المقاعد النيابية أن تحوز على "الحاصل الانتخابي". ولأجل تحديد الحاصل الانتخابي يصار الى قسمة عدد المقترعين في كل دائرة انتخابية كبرى على عدد المقاعد فيها (المادة 99/2).
هذه النسبة ستكون في بعض الدوائر الانتخابية مرتفعة تتخطّى نسبة العشرة في المئة بحيث سيكون من الصعب جداً على لوائح جماعات الحراك المدني أو اللوائح من خارج ائتلاف الأحزاب الكبرى و"الثنائي الشيعي" من الحصول عليها، وخصوصاً في حال وجود عدة لوائح في الدائرة الانتخابية ذاتها فتتبعثر الأصوات المؤيّدة لها. وكلما ارتفعت نسبة المقترعين في الدائرة الانتخابية، ارتفع الحاصل الانتخابي واصبح عائقاً حقيقياً أمام تلك اللوائح.
ولهذا، بدأت بعض القيادات الحزبية، وفي طليعتها الثنائي الشيعي وتيار المستقبل، منذ الآن حملة مركّزة لحثّ أنصارهما على الاقتراع بكثافة لرفع الحاصل الانتخابي بهدف إقصاء اللوائح المنافسة. أما إذا تدنّت نسبة المقترعين فينخفض الحاصل الانتخابي.
إلّا أنّ هذا الامر لن يكون بالضرورة لمصلحة لوائح الأحزاب الصغيرة بل، على الارجح، لمصلحة اللوائح الائتلافية للأحزاب الكبرى لأنّ هذه الأخيرة تملك ماكينات انتخابية فاعلة وإمكانات مادية وتنظيمية أكبر بكثير من إمكانات اللوائح الأخرى تمكّنها من حشد أنصارها ونقلهم الى مراكز الاقتراع (على نفقتها!) يوم الانتخاب.
لذا، فإنّ النظام النسبي المعتمَد في القانون الجديد لن يحقق الهدف المرجو منه، إذ سوف يُؤدّي الى إقصاء العديد من اللوائح المنافسة للوائح الأحزاب الكبرى والزعامات التقليدية بسبب الحاصل الانتخابي المرتفع.
الى ذلك، منح القانون الجديد الناخب صوتاً تفضيلياً واحداً لمرشح من الدائرة الانتخابية الصغرى من ضمن اللائحة التي يكون قد اختارها ( المادة 98).
والنتيجة المباشرة لهذا الصوت التفضيلي أنه جعل المنافسة بالدرجة الاولى بين أعضاء اللائحة الواحدة. وقد وصف وزير الداخلية (نهاد المشنوق) هذا القانون بأنه "قانون قابيل وهابيل حيث يقتل الأخ أخاه من أجل الصوت التفضيلي" ("النهار" في 10/3/2018). هذا الوصف صحيح الى حدٍّ بعيد، إذ إنّ كل عضو في اللائحة سيعمل على قاعدة "يا رب نفسي". والى ذلك، نودّ أن نضيف ما يأتي:
أ - أتوقع أن تُلغى نسبة لا يُستهان بها من الاصوات التفضيلية في جميع الدوائر الانتخابية بسبب الأخطاء التي سيرتكبها المقترعون لجهلهم لآلية القانون الجديد المعقّدة ولعدم معرفتهم بكيفية التعامل مع الصوت التفضيلي (أنظر الشروط الواردة في المادة 98). وهذا ليس بالأمر المستغرب في بلد لا تقل فيه نسبة الأمّية عن 15 في المئة ويعتمد النظام النسبي للمرة الأولى في تاريخه.
ب - انّ المستفيد الاول من الصوت التفضيلي سيكون رئيس اللائحة، ومن بعده سيذهب الصوت التفضيلي الى المرشح الأبرز من الطائفة أو المذهب في الدائرة الصغرى. أما مرشحو "الصف الثاني" والوجوه الجديدة غير المعروفة وغيرهم ممّن ليس لهم حيثية سياسية بارزة فلن يحصلوا على نسبة مرتفعة من الاصوات التفضيلية. لذا، فإنّ الفوز سيكون محصوراً بالدرجة الاولى بمرشّحي "الصف الاول" من اللوائح التي ستتمكّن من اجتياز حاجز الحاصل الانتخابي. أما اختراق لوائح الاحزاب الكبرى بفضل الصوت التفضيلي فسيكون محدوداً جداً خصوصاً بالنسبة للثنائي الشيعي.
الخلاصة: إنّ القانون الجديد سيسمح للطبقة الحاكمة، من أحزاب ذات صبغة طائفية وزعامات تقليدية ومناطقية، في إعادة إنتاج نفسها. لاشك أنه ستتغيّر وجوه وأسماء ولكنها في أكثريّتها الساحقة ستصل الى الندوة البرلمانية على متن "بوسطات" الأحزاب والزعامات المشار اليها وستسير في ركابها طوال ولاية المجلس. أما مرشحو المجتمع المدني فلن تكون لهم حظوظ تُذكر في اختراق لوائح ائتلاف الأحزاب الكبرى ما لم يوحّدوا صفوفهم ويتخلّوا عن أنانياتهم وحساباتهم الخاطئة وطموحاتهم الشخصية اللاعقلانية ويتّفقوا فيما بينهم على تأليف لوائح موحّدة في الدوائر الانتخابية التي لهم فيها حضور وازن وخصوصاً في العاصمة. أما حظوظ النساء، وقد بلغ عدد المرشحات 111 امرأة، فلن يكون أفضل. ولن تنجح منهن إلّا من تبنّت الأحزاب الفاعلة الكبرى ترشيحهن وهنّ معروفات سلفاً!
باختصار، إنّ الانتخابات المقبلة لن تؤدّي الى تغيير خريطة الواقع السياسي في البلاد ولا الى تعديل موازين القوى بشكل ملموس. وستحافظ الأحزاب التقليدية ذاتها على مقاعدها النيابية مع تبدّل طفيف في العدد لمصلحة هذا الحزب أو ذاك لا يؤثر على المشهد السياسي العام. وسيظلّ الواقع الطائفي، والتقاليد والعادات، والسلوك الجماعي، أقوى بكثير من قانون الانتخابات.