إذا كانت بداية العام الدراسي الحالي قد حملت تباشير استعادة الثقة بالتعليم الرسمي، فإنّ هذا لا ينفي أنّ المدرسة الرّسميّة لا تزال مأزومة وينقصها الكثير لتنهض من كبوتها، وأن بعض الإشارات المضيئة لتقدمها عائد لجهود فردية لمديريها ومعلميها، ولا يتعلق حتى الآن بأي قرار سياسي بتعزيز هذا المرفق الحيوي الوطني على مستوى التّخطيط والتّنظيم والرّقابة والتّقويم.
يعوّل بعض التربويين على نتائج الامتحانات الرّسميّة في السّنوات الأخيرة وازدياد عدد التلامذة في بعض الثانويات والمدارس، وتفوّق البعض القليل من تلامذة المدارس الرّسميّة، مقارنة بالعدد الإجمالي للمتفوّقين، كمؤشرات تطور وتقدم. لكنّ هذا لا يعني أنّ المدرسة الرّسميّة ليست مأزومة، أو أنّ السّياسات التّربوية على مستوى التّخطيط والتّنظيم والرّقابة والتّقويم تسير على ما يرام، رغم الجهود المبذولة. فهذا الّتقدم المحدود قد يكون في الأغلب نتيجة جهود فردية استثنائيّة على مستوى مدارس وثانويات محدّدة لا يتأخر مديروها ومعلّموها في توفير الظّروف المناسبة للتعلّم ومواجهة المعوّقات التي يمكن أن تعترضهم، وإن كانت هذه النتائج تشي بأن المدارس الرّسميّة يمكنها أن تتصدّر وتتألّق إذا توفرت لها الظروف المناسبة.
حجم أزمة المدرسة الرسمية تبرزها، بوضوح، نتائج دراسة ميدانية ضمن رسالة ماجستير في الإدارة التربوية في الجامعة الإسلامية، شملت عينة عشوائية من 35 مديراً و250 معلماً ومعلّمة في التّعليم الرسميّ، إضافة إلى مقابلات مع مسؤولين تربويّين، وأسفرت عن مؤشرات مقلقة.
دور المدير رقابي
على مستوى مديري المدارس، أظهرت الدّراسة أنّ 60% من المديرين يعيّنون وفق معايير غير موضوعية وغير علميّة، إذ تشكّل التّدخلّات السّياسيّة والحزبيّة المعيار الأساس في الاختيار، رغم خضوع المرشّح لمنصب الإدارة لاختبار مقابلة أمام لجنة من وزارة التّربيّة. ويخضع المديرون لتدريب غير كافٍ خلال سنوات الخدمة، إن لجهة المدّة الزّمنيّة للتدريب، أو لجهة الموضوعات التدريبيّة التي لا تشمل كل المهارات الإداريّة والفنيّة اللازمة لعمل المدير.
وبيّنت الدّراسة أنَّ إشراف المديرين على المعلمين يأخذ طابعاً رقابياً إدارياً أكثر بكثير من كونه طابعاً تربوياً وتوجيهياً. ففي وقت يهتم مديرو المدارس الرّسميّة بتطبيق الأنظمة والقرارات الإدارية الصّادرة عن الوزارة، ورصد حضور وغياب المتعلّمين والمعلّمين، يقصّرون في تطبيق الأنظمة التي تضمن سير العمليّة التّعليميّة بانتظام، إلى جانب التّقصير في تعزيز النّمو المهنيّ لدى المعلمين.
أما التّقويم المُعتَمَد، فلا يرتقي إلى تحقيق شروط التّقويم المدرسيّ الفاعل والشَّامل، إذ لا يجري التّنويع في أساليب التّقويم ذات الطّابع التّشخيصيّ، والّتي تسمح بالحصول على معلومات دقيقة عن مستوى تقدُّم التّحصيل العلميّ والمعرفيّ لدى المتعلّمين وعن تحقّق الأهداف والكفايات التربويّة، إذ إنّ تقييم تحصيل المتعلّمين ينحصر في إجراء الاختبارات الفصليّة أو الشّهريّة فقط، من دون العمل جدياً على تحليل وتقويم نتائج الاختبارات.
تدني أعداد التلامذة اللبنانيين
أَمَرُّ دليل على أزمة التعليم الرّسميّ هو مؤشر الانخفاض الدّائم لعدد التلامذة اللّبنانيّين (أي من دون الأجانب) المسجّلين في المدارس الرّسميّة. إذ تشير إحصاءات المركز التربويّ للبحوث والإنماء الى أنّ عدد التلامذة اللّبنانيّين في التّعليم الرّسمي انخفض من 320396 تلميذاً عام 2004 ــــ 2005 إلى 264364 تلميذاً عام 2017 ــــ 2018، في مقابل ارتفاع العدد في المدارس الخاصّة غير المجانيّة بشكل تصاعديّ لافت من 452120 إلى 512077 تلميذاً خلال الفترة نفسها. وكذلك الحال بالنّسبة إلى التعليم الخاصّ شبه المجّانيّ، إذ ارتفع عدد التلامذة اللّبنانيّين من 110128 إلى 125486، أي أنّ الفارق ازداد 131347 تلميذاً (من 241852 إلى 373199)، بما يعادل الثلث تقريباً، خلال 15 سنة لمصلحة المدارس الخاصّة (مجانيّة وغير مجانيّة) على حساب التّعليم الرّسميّ.
الثانويات تحتفظ بطلابها
تعكس هذه الأرقام تماماً الإقبال الكبير على المدارس الخاصّة المجانيّة وغير المجانيّة، مقارنة بالمدرسة الرّسميّة التي انخفض الانتساب إليها بشكل كبير جداً، خصوصاً في التّعليم الأساسيّ، في حين أنّ التّعليم الثّانويّ الرّسميّ يشهد تطوراً لافتًا بعدما حافظ على عدد المنتسبين إليه خلال السنوات العشر الأخيرة بنحو 56000 طالب، ومسجّلاً ارتفاعاً تجاوز 60000 طالب عام 2017 ــــ 2018، مناهزاً بذلك، وعن جدارة، عدد طلاب المرحلة الثّانويّة في المدارس الخاصّة، ومنافساً بجدّيّة التّعليم الثّانوي الخاصّ.
خيار اضطراري
والسّؤال المهم، إلام يشير هذا التّدني في عدد التلامذة، مع أنّ عدد المدارس والثانويات الرّسميّة يفوق عدد المدارس الخاصّة غير المجانية (1256 مقابل 1197)، والأبنيّة المدرسيّة الرّسميّة أصبحت أكثر جودةّ وانتشاراً في المناطق والقرى؟ وكيف سيصبح العدد لو أنّ الأحوال المادية لأهالي التلامذة أفضل، ولو أنّ التّعليم الخاصّ المجانيّ شمل المرحلَتَيْن المتوسّطة والثّانويّة؟ الجواب، باختصار، هو ضعف ثقة اللّبنانيين بالمدرسة الرّسميّة الوطنيّة، واعتبارها خياراً اضطراريّا وليست بديلًا عن المدارس الخاصّة.
ارتفاع نسب المتأخرين دراسياً
من المؤشرات المُقلِقة، أيضاً، ارتفاع نِسَب المتأخّرين دراسياً (عمر التلميذ أكبر من العمر الطبيعي لصفه)، إذ تشير إحصاءات المركز التربويّ للعام 2017 ــــ 2018، إلى أنّ نسبة المتأخّرين في المرحلة المتوسّطة (الحلقة الثّالثّة) بلغت نحو 50% من العدد الكليّ للمسجلّين (34334 تلميذاً من أصل 68949 تلميذاً)، و 33.4% في التّعليم الثّانويّ (20122 طالباً من أصل 60305). واللافت أنّ 26% من التلامذة في المرحلة المتوسّطة و12.7% في المرحلة الثانوية متأخّرون دراسياً سنتين أو أكثر، وقد ينتهي الأمر إلى تسرّب العدد الأكبر منهم نتيجة تأخّرهم الدّراسيّ.
في ضوء كل ما يجري، ثمّة أسئلة يطرحها المهتمّون بالمدرسة الرّسمية وبنهوضها: ألم يساهم إعطاء الدولة لموظفيها تقديمات ومنحاً ماليّة مدرسية سنوياً عاملاً أساسياً في إضعاف الثّقة بالتّعليم الرّسميّ، وتعزيز التّعليم الخاصّ مادياً واجتماعياً؟ ولماذا لا تفرض الدولة على موظّفيها وضع أبنائهم في المدارس الرّسمية؟ ألا يدعم ذلك تطوير التّعليم الرّسميّ، المعبر الحقيقي إلى الوطن والمواطنية؟ وكيف سيصبح التّعليم الرّسميّ لو أنّ مجموع المنح المالية بعشرات ملايين الدولارات سنوياً أُنفِقَت لتطويره؟
لا شكّ أنًّ هذه التساؤلات مشروعة، ولا تعفي الدولة من تورّطها في إضعاف التّعليم الرّسميّ ولو عن غير قصد. لكن في المقلب الآخر، لا يعارض غالبية الموظّفين وضع أبنائهم في المدارس الرّسمية، إذا جرى تذليل مشكلات هذا التعليم البنيويّة والمسلكيّة بما يجعله قادراً على النهوض بالمستلزمات التّعليميّة والتّربويّة المطلوبة، وهنا بيت القصيد.
بداية العام الدراسي 2018 ــــ 2019 حملت تباشير استعادة الثّقة بالمدرسة الرسميّة، فالأعداد الوافدة بكثرة على التّعليم الرّسميّ هذا العام، كما رشح عن مصادر رسمية، تشي بأنّ هذا القطاع التّعليمي ربما بدأ يستعيد عافيته ونهوضه. ولكن، لكي لا نفشل في تعزيز هذه الثّقة وتكريسها واقعاً محتماً، يصبح لزاماً على السّلطة السّياسيّة والقائمين على الدّولة، التّفكير في دعم التّعليم الرّسمّي بشكل جديّ وجوهريّ، بعدما تغافلوا عنه وأهملوه لسنوات طوالٍ عجاف.
ويبقى أن نتذكر بأنّ المدرسة الرّسميّة بكل مراحلها، مدرسة لاطبقيّة، مجانيّة تفتح أبوابها أمام الجميع من دون تمييز، ومدرسة لا مناطقية تمتد على مساحة الوطن ويتعلّم فيها أبناؤها تعليماً واحدا، ومدرسة لا طائفيّة، موحِّدة لكلّ اللّبنانيّين على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم الاجتماعية والسّياسيّة والمناطقيّة، وحاضنة لتنوّعهم الثّقافيّ وتعددهم الدينيّ.
* باحث تربوي
أبرز المعوقات
تواجه المدرسة الرّسميّة معوقات أساسية تتعلق بعدم اهتمام الأهل بمتابعة أبنائهم، وعدم تزويد المدارس بالمختبرات العلميّة والتّجهيزات الكافية وعدم توفّر الموارد الماليّة اللّازمة، إضافة إلى التّدخلّات السّياسيّة والخارجيّة في عمل المدير وقراراته وعدم امتلاكه الصلاحيّات الكافية، وضعف العلاقة والتّواصل مع المجتمع المحليّ ومؤسّساته، وعدم إجراء دورات تدريبيّة كافية للمعلمين، وعدم اتباع برامج ممنهجة للتّعليم التّعويضيّ والتّصحيحيّ، وتفشّي التّعاقد الوظيفيّ العشوائيّ والمنافعيّ والمناقلات العشوائيّة للمعلّمين وخصوصاً في التّعليم الأساسيّ، والتّرهل في بعض الكوادر التّعليميّة.
مديرون ناجحون... مدارس ناجحة
التجربة أثبتت أنّ المدارس والثّانويات الرسمية الناجحة والفاعلة اقترنت بأسماء مديريها، وخصوصاً أنّ التّعليم أصبح مهنة فنيّة تتطلب كفايات ومهارات ضروريّة، إلى جانب ضرورة إيلاء المؤسّسات المنوط بها إعداد المعلّمين والمرشدين والمديرين الاهتمام اللازم، واستصدار أو تعديل النصوص القانونيّة التي يمكن أن تعزّز علاقة المدرسة بالمجتمع المحليّ وبالبلديّات، والعمل على اعتبار المدرسة الرسميّة أهمّ مشروع وطنيّ.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك