بموازاة الطقس الربيعي - الشتوي المتقلب هذه الأيام، يلعب المزاج اللبناني العام على مقياسه المفضل: "باروميتر" الطمأنينة والذعر، من دون أن يستقر على درجة وازنة. من تصريحات المسؤولين والأحزاب حول الفساد وسبل محاربته، مروراً بالتحليلات والتقارير الإعلامية حول الوضع الاقتصادي وصولاً إلى التحركات الشعبية في الشارع وهواجس الأفراد المعيشية؛ لكن الحدث الذي استجد على الساحة الداخلية هو موضوع مزارع شبعا بعد اعلان النائب السابق وليد جنبلاط بأنها ليست لبنانية. وهو ما استدعى من النائب السابق نقولا فتوش إلى الرد على رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ناسبا اليه تهمة الخيانة العظمى على خلفية موقف جنبلاط الذي شكك بلبنانية مزارع شبعا.
تعتبر جريمة الخيانة العظمى من أخطر أنواع الجرائم الماسة بأمن الدولة كونها تشكل اعتداء مباشرا ومؤثرا على الوجود السياسي للدولة، الأمر الذى جعل هذه الجرائم تحتل مكان الصدارة في قانون العقوبات اللبناني حيث منحها المشرع الأولوية و الأسبقية في ترتيب النصوص نظرا لخطورتها و أهمية المصالح التي يحرص على حمايتها، وبناءا على ما سبق يمكن طرح الإشكالية الآتية: هل يمكن اتهام النائب السابق وليد بجرم الخيانة العظمى بعد اعترافه الواضح والصريح بعدم لبنانية مزارع شبعا؟
إنه سؤال مؤلم، ولكن طرحه في هذه الأيام يعتبر من الواجبات، أما الجواب عنه فمن أوجب الواجبات.
الخيانة في اللغة العربية، هي أن يُؤتَمن الإنسان فلا يَنصَح، وقد خانه العهدَ والأمانة، وخوّنه أي نسبه إلى الخيانة.
وإذا طبّقنا هذه المعاني العامة على واقع الحياة الإنسانية، لأمكننا القول: إن الإنسان الذي يعد ولا يفي بوعده فقد خان، ومن يكذب ويضرّ كذبه بالناس فقد خان، ومن يُودِع عند صديق له مبلغاً من المال، ثم ينكره ذلك الصديق، ولا يرده لصاحبه، والموظف الذي يقوم بهدر أموال الدولة أو يسرق منها ما يستطيع، فهو خائن، والجندي الذي يفر من ساحة المعركة هو خائن، والسلطان الذي يتّخذ قرارات خاطئة، بقصد أو بدون قصد، وتضر بالأمة جمعاء هو خائن. وهكذا نجد الخيانة على أنواع وأشكال، وتتدرج من الخيانة الصغرى.. فالكبرى.. فالكبرى، حتى تصل إلى الخيانة العظمى التي لا خيانة فوقها.
أما الدستور اللبناني فقد اعتمد النظرية الدستورية على حساب النظرية الجزائية اذ اقر في المادتين 60 و 70 ان مسؤولية خرق الدستور والخيانة العظمى لا تخضع لمبدأ لا جرم ولا عقوبة دون نص ، وهو المبدأ الذي يقوم به القانون الجزائي . والدستور قد انشأ نوعاً من المسؤولية السياسية ذات الشكل الجزائي.
ان موضوع الخيانة العظمى المثار اليوم على خلفية قضية فتوش - جنبلاط يتداخل فيه الشأنان القانوني والسياسي بامتياز . وفيه يتداخل أيضا الظرف الآني بالمناخ العام.
ففي مؤتمر صحافي أعتبر النائب السابق نقولا فتوش ان رئيس حزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط قد خرق الدستور عندما أقرّ بان مزارع شبعا ليست لبنانية وهو بذلك ارتكب جريمتين على حد قول فتوش: الاعتداء على الدستور وارتكاب الخيانة العظمى، وهي برأيه ليست ساعة تخلي. وقد تناول فتوش هذا الجرم الثاني الذي ورد في الفصل الاول من قانون
العقوبات تحت عنوان: "في الخيانة" حيث نصت فيه المادة 277 عقوبات على ما حرفيته: "يعاقب بالاعتقال المؤقت 5 سنوات على الاقل كل لبناني حاول باعمال او خطب او كتابات ان يقتطع جزءا من الارض اللبنانية ليضمها الى ارض اجنبية او يملّكها امتيازا لدولة اخرى،" كما نص قانون العقوبات في المادة 301 تحت عنوان: الجنايات المرتكبة ضد الدستور، بالاعتقال 5 سنوات على الاقل، وكل من يحاول ان يسلخ عن اراضي الدولة جزءا من الارض، عوقب بالاعتقال المؤقت والابعاد، كما يقضى بتجريده من حقوقه المدنية. وأشار فتوش إلى الفقرة "أ" من الدستور اللبناني التي تنص على : ان لبنان واحد ارضا وشعبا ومؤسسات في الحدود التي ينص عليها الدستور، والمعترف بها دوليا ، كما نص دستور لبنان الكبير على ان لبنان دولة مستقلة ذات حدود لا تتجزأ. وشدّد فتوش على ان جرائم الخيانة العظمى ثابتة بحق وليد جنبلاط ويقتضي توقيفه وتجريده من حقوقه المدنية وكل من يتحدث عن ساعة تخلي يكون شريكا في جرم الخيانة، في حين نصت المادة 50 من الدستور اللبناني، على ان حين يقبض الرئيس على ذمة الحكم يحلف يمين الاخلاص للامة والدستور، مطالبا النيابة العامة التمييزية التحرك ضد مرتكب الخيانة العظمى وليد جنبلاط وتنفيذ القانون بحقه؛ داعيا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى تطبيق قسمه بالحفاظ على وحدة الارض، كما دعا رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس مجلس النواب نبيه بري الى التحرك ايضا كما وزير الخارجية جبران باسيل لابراز الوثائق الثابتة غير القابلة للنقاش التي تملكها الخارجية وتثبت لبنانية مزارع شبعا.
في قاموس نقولا فتوش «وليد جنبلاط" خان وطنه عن سابق تصور وتصميم لاهداف خارجية مفضوحة حين اعلن بالفم الملآن ان «مزارع شبعا ليست لبنانية». كما يعتبر اتهام فتوش بمثابة اخبار الى القضاء اللبناني لاخذ الاجراءات اللازمة بحق وليد جنبلاط، ولا يقف الامر لدى فتوش عند هذا الحد فهو يطالب رئيس الجمهورية ميشال عون المؤتمن الاول على الدستور والرئيس نبيه بري باتخاذ الاجراءات السياسية الكفيلة بايقاف جنبلاط وكل من تسول له نفسه المس بالسيادة الوطنية عند حدهم.
لقد أثار هذا المناخ غير المريح أسئلة كثيرة حول خلفيات تصريحات جنبلاط التي أدلى بها لقناة روسيا اليوم والذي رأى فيها البعض تصريح بتوقيت حرج قد يمهد لضم الأرض اللبنانية المحتلة إلى قرار ترامب الاعتراف بالجولان تحت السيادة الإسرائيلية؛ بعد قول جنبلاط أن مزارع شبعا اللبنانية المحتلة من قبل إسرائيل ليست لبنانية، وأن ضباطا لبنانيين بعد تحرير الجنوب عبثوا بالخرائط بالاشتراك مع السوريين ، "فاحتلينا نظريا مزارع شبعا ووادي العسل، لكي تبقى الذرائع السورية وغير السورية من أجل تحريرها بشتى الوسائل ، وهكذا كان".
كلام جنبلاط حول مزارع شبعا سرعان ما وصلت شظاياه إلى حارة حريك حيث وصلت العلاقة بين جنبلاط و«حزب الله» الى مستوى بالغ التوتر والتي انفجرتْ مع قرار لوزير الصناعة وائل أبو فاعور كسِر قراراً لسَلَفه من «حزب الله» بمنْح ترخيص لإقامة معمل أسمنت لآل فتوش في عين دارة (عاد وأبطل القرار مجلس شورى الدولة)، وصولاً الى إعلان جنبلاط أن مزارع شبعا غير لبنانية، وبينهما استشعار جنبلاط بمحاولة من النظام السوري وحلفائه في لبنان لتطويقه على حد قوله.
نحن اليوم امام اشكالية دستورية وانقسام سياسي واضح حول لبنانية مزارع شبعا التي تحولت إلى مادة جدلية وخلافية بين الاطراف اللبنانية التي تعود الى فتح ملف هوية مزارع شبعا ومناقشة مسألة السيادة الوطنية عليها. ان قضية مزارع شبعا قد حسمت ب منذ العام 2000 وكان موقف الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي آنان قاطعاً في هذا الشأن وعبر عنه في تقريره المؤرخ في 22/5/2000 والمرفوع الى مجلس الأمن. فالموقف كان واضحاً بما ذكره في الفقرة 16 من التقرير وما نصه الحرفي: «و قد قامت حكومة لبنان… بتزويد الأمم المتحدة بشهادات الملكية اللبنانية لأراضٍ زراعية وبوثائق تبين أن المؤسسات الحكومة والدينية اللبنانية مارست سلطت قضائية… على هذه المزارع وقامت حكومة لبنان بإبلاغ الأمم المتحدة بوجود تفاهم مشترك بين لبنان والجمهورية العربية السورية بأنّ هذه المزارع لبنانية وشمل ذلك قرار للجنة لبنانية سورية خلص في العام 1964 الى انّ المنطقة لبنانية…
وكان منطقياً بعد هذا التوافق القانوني والميداني والسياسي أن تبادر الأمم المتحدة للطلب من إسرائيل بإخلاء المزارع، لكن لارسن رئيس البعثة الدولية الذي اعترف بأحقية لبنان بالمزارع وبهويتها اللبنانية فاجأ الجميع عندما اعتبر إنّ المزارع احتلت قبل القرار 425 وأخضعت في العام 1974 بعد اتفاق فضّ الاشتباك بين سورية و»إسرائيل» وإنشاء قوة الأمم المتحدة في الجولان اندوف للصلاحية العملانية لهذه القوات، وبالتالي لا صلاحية لقوات الأمم المتحدة «يونيفيل» بها. فرفض لبنان هذا التبرير وهذا المنطق المعكوس وتحفّظ عليه فهو بعد ان يقرّ بلبنانية المزارع ثم يدعو الى استمرار احتلالها خلافاً للقرار 425 الذي ينص على تحرير كلّ الأرض اللبنانية.
واذا كان العام 2000 قد سجل إجماعاً لبنانياً تأييداً للموقف الرسمي اللبناني المؤكد للبنانية المزارع؛ لكن الأمر سرعان ما تغيّر في العام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تبعه من انقسام عمودي في لبنان، حيث إنّ فريق "قوى 14 آذار" أنكر لبنانية مزارع شبعا لينفي وجود أرض لبنانية محتلة وليسقط ذريعة وجود مقاومة في لبنان وكلّ القصد تجريد حزب الله من سلاحه. هذا الانقسام حمل الرئيس نبيه بري الذي كان دعا الى حوار وطني حول المسائل الوطنية الخلافية على وضع موضوع المزارع على جدول أعمال هيئة الحوار التي خرجت بموقف نهائي تؤكد ان المزارع لبنانية وسحب ملف هوية المزارع من التداول وأقرّ ذكرها في كلّ بيان وزاري صدر بعد العام 2006 باعتبارها أرضاً لبنانية محتلة من قبل العدو الإسرائيلي وأنّ للبنان الحق بممارسة كلّ الوسائل المتاحة لتحريرها عبر ثلاثية القوة اللبنانية «الجيش والشعب والمقاومة». قبل ان يعود جنبلاط ودون سابق انذار إلى فتح ملف مزارع شبعا يسانده في ذلك عدد من القوى السياسية والأحزاب الذين ينكرون لبنانية مزارع شبعا في موقف ملفت ومثير للغرابة لكنه لا يستدعي الاستعجال بتوجيه اصابع الاتهام بالخيانة العظمى برأي بعض المراجع القانونية
إلى كل من لا يعترف بلبنانية المزارع على اعتبار ان موضوع مزارع شبعا يشكل نقطة خلافية ومادة سجالية تتجدد في لبنان بين مختلف الاطراف اللبنانية؛ لكن ذلك لا يعفي لبنان الرسمي برأي هؤلاء القانونيين من التحرك و الخروج من سياسة اللامبالاة تجاه المزارع والمطالبة تزويد الدولة اللبنانية بالخرائط والوثائق، لتثبيت لبنانية المزارع، ومراجعة الحكومة السورية للحصول منها على رسالة خطية تؤكد لبنانية المزارع، وادراج اعترافها في وثيقة موقّعة تُرفع إلى الأمم المتحدة بما يسمح بشمولها بمهمة «يونيفيل» استناداً للقرار 425.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك