لم يعد القطاع العام مجرّد حملٍ ثقيل على اللبنانيين وحسب، بل تحوّل الى مصدر خطر حقيقي ووشيك على لقمة عيشهم. ومن الواضح انّ مشروع الموازنة حاذر الغوص في المشكلة للبدء في المعالجة، وفضّلت الحكومة، مرةً بعد، الهروب الى الأمام.
لم تكن ردود الفعل الأولية على ارقام مشروع موازنة العام 2019 من قِبَل المؤسسات المالية الدولية المتخصصة مشجعة، وربما هذا ما استدعى تدخلاً فرنسياً لتخفيف وطأة هذه الردود، ومنح لبنان جرعة اوكسيجين يحتاجها في هذه الحقبة.
لقد صار معروفاً أنّ واحدة من أكبر الأزمات التي يواجهها الاقتصاد ترتبط بحجم وفعالية القطاع العام. هذا الموضوع لم تتم معالجته في مشروع الموازنة، وهو يشكّل نقطة محورية في الإنقاذ. والأهم انّه يشكّل مؤشراً الى مدى جدّية الدولة في مقاربة ملف الفساد، والقضاء على الزبائنية، وإعطاء إشارة الى الخارج الى انّ مرحلة الإصلاحات المطلوبة بدأت فعلاً.
بعد مرور سنتين على إقرار قانون سلسلة الرتب والرواتب، حان الوقت لمراجعة شفافة. يتبيّن من خلال الأرقام، انّ الـ 300 الف موظف في القطاع العام، ارتفعت تكاليف رواتبهم وتعويضاتهم وتقاعدهم بنسبة 24.54% حتى ايار 2018. ووصلت الزيادة حتى هذا التاريخ وفق وزارة المالية الى 2.64 مليار دولار. وفي التقديرات، انّ هذا الرقم ارتفع اليوم، وقد اقترب من عتبة المليارين ونصف المليار دولار. وتبيّن الأرقام انّ نسبة كلفة رواتب القطاع العام أصبحت تشكّل 67.8% من النفقات الأولية الحالية (حتى ايار 2018)، مقارنة مع 69.1%، كما شكّلت تكاليف الموظفين 34.2% من إجمالي النفقات (حتى نيسان 2018)، مقارنة بـ 36.6 % في الفترة نفسها من 2017. وقد يوحي ذلك بإيجابية على اعتبار انّ النسبة تراجعت، لكن الكارثة تتوضّح عندما يتبيّن انّ انخفاض النسبة له علاقة بالزيادة الواضحة في إجمالي النفقات التي ارتفعت بنسبة 33.3% بين نيسان 2017 وأيار 2018!
هذا الواقع يستدعي معالجة جذرية. خصوصاً انّ كلفة القطاع العام وصلت الى مستويات قياسية تؤشّر الى خلل بنيوي لا يمكن للاقتصاد ان ينجو من مفاعيله على المدى القصير والمتوسط.
من هنا يمكن الولوج الى القرارات التي صدرت عن النيابات العامة في ديوان المحاسبة لإحالة دفعة اولى من ملفات التوظيف غير القانوني الى القضاء تمهيداً لاتخاذ القرارات المناسبة. وهو مسار بدأ لتوّه، وينبغي أن يتواصل بسرعة، لكنه لن يصل حتماً الى مرحلة محاسبة المسؤولين، بل سيبلغ في أحسن الاحوال عتبة الحكم على من توظّف واستفاد ثم استفاق على كارثة.
في موازاة معالجة ملف التوظيف غير القانوني، يحتاج البلد الى ورشة تنصّ على التالي:
اولاً- وقف التوظيف لفترة 5 سنوات، وهي الفترة المعتمدة وفق التعهدات التي قدّمها لبنان في «سيدر» لخفض العجز بنسبة 5% (1% سنوياً). وحصر التوظيف، في الحالات الاستثنائية بعقود عمل خاصة تنتهي بانتهاء فترة العقد. ويمكن إيجاد صيغ قانونية جديدة اذا لزم الأمر.
ثانياً - إعادة توصيف وتوزيع موظفي القطاع العام على مختلف الإدارات لملء الشواغر، ومنع الخلل في عمل بعض الادارات، وتخفيف الحمولة الزائدة في ادارات أخرى.
ثالثا- توحيد نظام التقاعد لجميع موظفي القطاع العام.
رابعاً - التوفير في الإنفاق في القطاع العام لا يتمّ فقط بناءً على ما تقترحه قيادات وادارات هذا القطاع بشقيه العسكري والمدني. ذلك انّ لدى الاشخاص ميلاً انسانياً مفهوماً نحو الاقتطاع من كل مكونات الانفاق، شرط تحاشي خفض مداخيل الموظفين. وهذا الامر خطير لأنّه قد يضرّ بقدرة بعض الإدارات على الاستمرار في تأدية واجباتها. لذلك، المطلوب تنسيق وتفاهم للوصول الى أفضل الصيغ في خفض الإنفاق. والحكومة في النتيجة هي المسؤولة عن تحديد الأولوليات والخيارات.
خامساً - إعادة الاعتبار لمؤسسات الرقابة لتجويد العمل الذي يقدّمه موظف القطاع العام. وهذا الأمر لا يمكن ان ينجح من دون تفعيل المحاسبة، بعد رفع الغطاء السياسي والطائفي عن كل الموظفين.
سادساً - وضع مخطط توجيهي لمنهجية القطاع العام بعد مرور السنوات الخمس. فصحيح انّ دراسة تقييمية يجب ان تُنجز بعد تلك الفترة، لكن المطلوب ايضاً خطة مبدئية تحدّد الأهداف المقبلة لهذا القطاع.
في النتيجة، القطاع العام وكلفة الفوائد على الدين العام «يلتهمان» حوالى 78% من حجم الموازنة. ولا توجد حلول سحرية للمشكلتين سوى في البدء بالمعالجة الرصينة والحاسمة. واذا كانت مشكلة موظفي الدولة تحتاج الى خطة، فانّ خفض كلفة الدين العام تحتاج الى وقف العشوائية في مقاربة الملف. ومن يعتقد انّ الطريقة المثلى في خفض كلفة الدين وتحريك الاقتصاد تبدأ بإعادة خفض أسعار الفوائد فهو مصيب وحكيم. لكن من يعتقد أيضاً انّ خفض الفوائد يتمّ بقرار أو من خلال الضغط على مصرف لبنان او البنوك التجارية، فهو إما جاهل وإما خسيس، وفي الحالتين لا يمكن الاعتداد برأيه.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك