ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداسا احتفاليا في كنيسة مار يوسف للآباء اليسوعيين - شارع جامعة القديس يوسف في الاشرفية، لمناسبة بدء السنة الاكاديمية ال145 لجامعة القديس يوسف في بيروت والاحتفال بذكرى مئوية دولة لبنان الكبير، وذلك بدعوة من رئيس الجامعة البروفسور سليم دكاش ومجلس الجامعة.
وبعد الانجيل المقدس ألقى الراعي عظة بعنوان: "من تراه العبد الأمين الحكيم؟" (متى45:24) وقال: "في اللاهوت الكتابي، لكل شخص يولد في العالم دعوة خاصة من الله، مطلوب منه تمييزها، سواء في العائلة أم في المجتمع أم في الكنيسة أم في الدولة. ولذلك يطلق عليه لقب "عبد" المشتق من فعل "عبد"، ويعني "العابد"، المؤمن المحب لله الذي يتجلى حبه في أفعال العبادة. ويعني بالتالي الشخص الذي يختاره الله لرسالة معينة يحقق بواسطتها تصميمه الإلهي. يسوع نفسه يدعى في سفر أشعيا "عبد يهوه" أي "عبد الله". إنه لقب شرف. ويطلق أيضا في الكتاب المقدس على جماعة أوكلت إليها رسالة خاصة. فشعب الله في العهد القديم يسمى "عبد الرب".
يطلب من العبد، أكان شخصا فردا أم جماعة، أن يتصف بالأمانة والحكمة. هذا ما يقتضيه منا الرب يسوع بقوله في إنجيل اليوم: "من تراه العبد الأمين الحكيم الذي أقامه سيده على بني بيته، ليعطيهم الطعام في حينه" (متى45:24)".
أضاف: "في ضوء هذا الكلام الإنجيلي، الرهبنة اليسوعية وجامعة القديس يوسف في بيروت تنعمان بلقب "عبد الرب"، وتؤتمنان على رسالة عظيمة في الكنيسة والمجتمع والوطن، وهي تنشئة الانسان روحيا وعلميا وأخلاقيا، وإعداده لتمييز دعوته في الحياة، وصنع خياراته الصائبة، والقيام بواجب حالته بروح المسؤولية. هذا هو الطعام الذي يطلب الله من عبده أن يعطيه لبني بيته (راجع متى45:24)، وجامعة القديس يوسف تعطيه بمختلف كلياتها ومعاهدها، لأجيالنا في لبنان منذ 145 سنة. هذا فضلا عن "طعام" كلمة الله كرازة وتعليما وإرشادا، ونعمة الأسرار تقديسا، والتعليم الرفيع تربية للأجيال الطالعة. هذا "الطعام" قدمه الآباء اليسوعيون منذ وجودهم في لبنان. فإني أحييهم وأشكرهم بإسم الكنيسة، راجيا للرهبنة وأبنائها ومؤسساتها فيض النعم السماوية".
وأردف الراعي: "يسعدنا أن نحتفل معا بهذه الليتورجيا الإلهية، بمناسبة مرور 145 سنة على تأسيس هذه الجامعة الزاهرة، وإطلاق النشاطات لمناسبة إعلان دولة لبنان الكبير. وتتخذ المناسبتان رونقهما من ارتباطهما الروحي والعلمي والوطني بالمكرم البطريرك الياس بطرس الحويك، الذي تلقى تربيته الإكليريكية والكهنوتية على يد الآباء اليسوعيين في إكليريكية غزير من سنة 1859 إلى 1866، قبل إرساله إلى روما. وعبر في رسالة إلى الآباء سنة 1902، بعد انتخابه بطريركا بثلاث سنوات، وفي زيارته للجامعة في 29 كانون الاول 1919، عن امتنانه "لمعلميه الذين أغدقوا عليه كنوز علمهم والتزامهم ومحبة قلوبهم". وفي سني بطريركيته الإثنتين والثلاثين كان على تعاون واتصال دائمين مع الآباء اليسوعيين وبخاصة مع رئيس الجامعة آنذاك الأب Cattin. ويطيب لي التأكيد أن التاريخ يتواصل. فأنا شخصيا تتلمذت للآباء اليسوعيين الأحباء في غزير لمدة سنة، وفي مدرسة الجمهور لخمس سنوات. وكانت لي معهم علاقات مودة وتعاون أثناء حياتي في الرهبانية المارونية المريمية، وحياتي الأسقفية روحيا وراعويا وتعليما إذ تشرفت بتعليم مادة الأحوال الشخصية في كلية الحقوق والعلوم السياسية لمدة عشر سنوات. واليوم كبطريرك أتطلع إلى المزيد من التعاون معهم في خدمة الكنيسة ولبنان. وهي مناسبة لأعرب بدوري عن امتناني وشكري وتقديري لكل واحد منهم، وللجماعة بشخص الرئيس الإقليمي عزيزنا الأب داني يونس".
وقال: "يسعدني أن ألبي شاكرا من القلب دعوة عزيزنا رئيس جامعة القديس يوسف البروفسور سليم دكاش، للقيام بهذا الاحتفال المهيب. أن نطلق نشاطات جامعة القديس يوسف لمناسبة إعلان دولة لبنان الكبير، بالترابط مع الاحتفال بمرور 145 سنة على تأسيسها، فلأن الأباء اليسوعيين عاونوا البطريرك الحويك في رحلته إلى مؤتمر الصلح في فرساي سنة 1919، ولاسيما في الوفد الثالث برئاسة المطران عبدالله الخوري، حتى بلوغ "إعلان دولة لبنان الكبير في أول أيلول 1920؛ ولأن جامعة القديس يوسف كانت الجامعة الكاثوليكية الوحيدة التي ربت وخرجت معظم رجالات الدولة والاستقلال، ومن بينهم "عباقرة" دستور سنة 1926، والميثاق الوطني سنة 1943 المكرس في وثيقة الوفاق الوطني سنة 1989.
هذه الوثائق ثبتت قيم لبنان التأسيسية: وهي الاستقلال المتحرر من أي تبعية، الوطن النهائي لجميع أبنائه في حدوده المعترف بها دوليا، الوحدة في التنوع، الحريات العامة الدينية والثقافية والسياسية، العيش معا كمسيحيين ومسلمين بالمساواة في الحقوق والواجبات، المشاركة المتوازنة في الحكم والإدارة، ولبنان النموذج والرسالة عربيا ودوليا".
وتابع: "هذه القيم تشكل فلسفة الصيغة اللبنانية التي تتلخص باستيعاب الواقع المجتمعي التعددي في إطار كيان سياسي موحد، تشارك الطوائف فيه في ممارسة السلطة، بهدف بناء دولة تحقق العدالة والأمن والاستقرار، وتوفر العيش الكريم لأبنائها، فيقوى انتماؤهم الوطني لإقتناعهم بأن الدولة تشكل ضمانة لهم جميعا، من دون حاجة لأي ضمانة أخرى، وتتعزز بذلك الوحدة الوطنية وتترسخ ويغدو العيش المشترك حقيقة واقعية. ولكننا ندرك أسف جامعة القديس يوسف، كما سواها من الجامعات التي تربي الأجيال وفقا لروح الدستور ونصه وفلسفة الميثاق الوطني، عندما تشاهد على أرض الواقع النقيض لما تعلم وتربي، في الممارسة السياسية عندنا. فنحن معكم نرفض استثارة العصبيات الطائفية والمذهبية على اوسع نطاق، واستخدامها كأداة في العمل السياسي لاستقطاب الجماهير. الأمر الذي عمق الانقسامات الطائفية والمذهبية، وأدى إلى تشويه مفهوم المشاركة الطوائفية في السلطة. فبدلا من أن تكون مشاركة في بناء دولة تصون وحدتها والعيش المشترك، وتوفر الأمن والاستقرار والعيش الكريم لأبنائها، غدت المشاركة وسيلة لتقاسم النفوذ والوظائف والمكاسب بين السياسيين، ونهب المال العام، وتوزيع مقدرات الدولة حصصا بينهم بإسم الطوائف. مما أدى إلى إضعاف الدولة وإغراقها في الديون، وإلى جعل شبابها جماعة متظاهرين وقاطعي طرق ومهاجري الوطن، فيما هم ضمانة مستقبله. ولذا، لا نستطيع السكوت عن هذه الممارسة المخالفة للدستور ولفلسفة الميثاق الوطني، والمقوضة لأوصال الدولة، وإفقار شعبها، وخنق طموحات شبابها".
وأردف: "لا نستطيع السكوت عن تسييس القضاء في بعض الحالات، وعن تحويله إلى محاكمات سياسية طائفية تفبرك فيها الملفات، وتنقض النصوص، وتعطل إفادات مؤسسات الدولة، ويمارس التعذيب لدى أجهزة أمنية باتت مذهبية، لكي يقر المتهم بجرم لم يقترفه، ويوقع محضرا لم يطلع عليه، ولم يسمح له بالاطلاع. ويضغط على القاضي، ويحاصر حزبيا وطائفيا في إصدار قراره وحكمه بموجب الضمير. ومن ناحية أخرى، لا نستطيع السكوت عن عدم تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية المحقة، من قبل النافذين السياسيين والمذهبيين، وكل ذلك مخالف تماما لما تنص عليه المادة 20 من الدستور. أقول هذا ليس فقط للادانة والشجب وتحطيم الهمم، بل وبخاصة لتضاعف الجامعة وسائر مؤسساتنا التعليمية جهودها في تربية أجيالنا، المسؤولة غدا عن الوطن، على القيم الأخلاقية، وروح المسؤولية، وكرامة العمل السياسي الذي طريقه الإنسان والخير العام. فلبنان بحاجة إلى مسؤولين جدد من نوع آخر، ومطلوب من الكنيسة إعدادهم وتشجيعهم ومواكبتهم. فإنها تحتفظ بحق التمييز بين التراجع والتقدم، وبين التطور النهضوي والتطور الانحطاطي، وبين المعرفة التي تؤدي إلى الحقيقة والإيمان، وبين المعرفة التي تنزلق إلى الضلال والشك. في كل ذلك الكنيسة ترفع صوتها، وتعطي صوتا لمن لا صوت له. ولذا، أعين الشعب تنظر اليوم إليها. فكما كانت الرائدة في إنشاء الدولة - الوطن في مطلع القرن الماضي، مدعوة هي اليوم إلى تحصين هذا الكيان بمجتمع صافي الولاء، لبناني الهوية، عصري الوجه، مدني القوانين، راقي التقاليد، وقادر على احتضان هذه التجربة الفذة ومنعها من الانهيار. الكنيسة قادرة على ذلك، لأنها تمتلك المدرسة والجامعة. فعلى مقاعدها يتهيأ مستقبل الدولة والوطن".
وختم الراعي: "يقتضي منا المسيح الرب أن نكون أمناء وحكماء في ممارسة ما نحن مؤتمنون عليه تجاه الجماعة. فالأمانة هي من صفات الله الأمين لمحبته ورحمته. ونحن مدعوون لنكون أمناء على مثاله: أمناء تجاهه وهو الداعي والموكل، وتجاه مسؤولية الحالة الشخصية، وتجاه الجماعة التي في عهدتنا. أما الحكمة فهي أولى مواهب الروح القدس السبع التي تؤهلنا لننظر إلى الأمور من منظار الله، ونستلهمه في أي قرار وعمل. وتبلغ فضيلة الحكمة ذروتها في "مخافة الله" التي هي السهر الدائم على مرضاته وتجنب اية إساءة مقصودة له.
بهاتين الفضيلتين تواصل جامعة القديس يوسف رسالتها، ونطلق النشاطات لمناسبة الاحتفال بمئوية إعلان دولة لبنان الكبير، لمجد الله الأعظم".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك