تنفرد مجموعة أصدقاء قدامى التقوا في ساحة الرياض الصلح، بمساحة أقل ضجيجاً، لمناقشة خيارات الحراك وآفاقه. بدا هؤلاء أكثر قلقاً من ردة فعل الحكومة على استمرار الاحتجاجات، طارحين مجموعة من الأسئلة الشائعة منذ ليل الخميس الماضي: «هل تستقيل الحكومة؟ ماذا بعد استقالتها؟ هل تتحقق أمنيات الشعب بإعادة الأموال المنهوبة؟ هل تتحسن ظروف البلاد الاقتصادية؟»، وفوق كل ذلك «كيف سنعبر الأزمة ونحقق التغيير؟».
والسؤال الأخير، هو الأكثر تردداً. فالضبابية التي تحيط بالمشهد الذي يلف وسط بيروت وسائر المناطق، تستدعي هذه الأسئلة، ذلك أن الجموع التي تتداعى إلى وسط بيروت، تثبت بما لا يحمل الشكّ أن الحراك شعبيّ، لا تحركه أحزاب ولا فئات ولا نقابات ولا قوى ضغط، وتظهر الشعارات المرفوعة والمجموعات المشاركة، أن الحراك لا قيادة له على مستويات عالية، ولا حتى على مستوى المجموعات الصغيرة، ما يعطيه طابع الغضب الشعبي حتى الآن.
وتحوّلت منطقة وسط بيروت إلى مساحة حرة للتعبير عن الهواجس والغضب، فتقول جويل (27 عاماً) إنها تخرجت قبل 5 سنوات من واحدة من أغلى الجامعات في لبنان، ولا تجد وظيفة. «دمرونا»، تقول بحسرة، مشيرة إلى أنها تعاني من الكآبة، وتفكر في الهجرة: «تراجع عمل والدي، ولا أجد فرصة للعمل... أين نذهب؟»
ومثلها، يعبّر أمين (29 عاماً) الذي قدم على 5 وظائف في مجلس الخدمة المدنية عله يجد فرصة وظيفة حكومية قبل اتخاذ القرار الحكومي بمنع التوظيف في القطاع العام، وذلك بعد أن أيقن قبل 10 سنوات بأن فرصة الالتحاق بالكلية الحربية كانت شبه معدومة (قبل أن يتخذ قائد الجيش الحالي جوزيف عون قبل عامين قراراً بمنع التوسط في امتحانات الكلية الحربية). ويقول: «أحمل إجازة في إدارة الأعمال، وأعمل عامل توصيل نراجيل (ديلفري) كي أتمكن من العيش»، لافتاً إلى أن الظرف المعيشي «يزداد قسوة، ولا أمل إلا بالتغيير».
ويتسم الحراك بالغضب والاستياء من الأداء السياسي لجهة محاكاة هواجس الناس ومطالبهم، والتطلع بشؤونهم الاقتصادية إثر تراكم الأزمات وتضخمها منذ أسابيع، لجهة ارتفاع الأسعار وفقدان العملة الصعبة من السوق، والإجراءات التي تتخذها المصارف بفرض قيود على السحوبات بالدولار. وازدادت مع قرارات تجميد التوظيف في القطاع العام، وإغلاق عشرات المؤسسات الخاصة بسبب الظروف الاقتصادية الضاغطة، بموازاة الحديث عن سلة ضرائبية جديدة قد تطال بطريقة غير مباشرة الطبقات الفقيرة والمتوسطة. واللافت أن الغضب لم يوجه إلى فئة دون أخرى، بل طال الجميع دون استثناء، وتوحّدت الرايات في الاحتجاجات حيث انحصرت بالعلم اللبناني وحده، فيما طالت الشتائم قسماً من السياسيين.
وتتفاوت آمال المتظاهرين في مستوياتها بين السقف العالي والواقعية. لدى صغار السن الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً، يمكن رصد توق عالٍ للتغيير بلا أدنى حسابات سياسية. ينتظر هؤلاء إعلان استقالة الحكومة، وسقوط العهد، ووصول مجموعة جديدة من السياسيين الاختصاصيين إلى الحكم «لينقذوا البلاد»، كما تقول نوال (21 عاماً)، متسائلة: «ما المانع من التغيير؟ نحن هناك أكثرية تستطيع أن تضغط وتفرض شروطها، ولن يكون أمام السلطة إلا الاستجابة».
هذا الاندفاع «الثوري» لدى اليافعين، تقابله واقعية لدى الفئات الأكبر سناً. يطالب هؤلاء بالتغيير في المقاربة الاقتصادية للبلاد. يدركون أن التغيير السياسي ككل، مستحيل وينطوي على مخاطر تدهور الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي في البلاد، كما أن تركيبة النظام تمنع ذلك، بالنظر إلى أن نظام الحكم في البلاد قائم على التشارك وفق معايير الديمقراطية التوافقية. لذلك، يرى هؤلاء أن الضغوط يجب أن تتركز على القوى السياسية لتغيير مقاربتهم تجاه الحكم. يقول علي (37 عاماً) وهم يحمل إجازة في الحقوق، إن التغيير «مستحيل ويندرج ضمن سياق الآمال الكبيرة غير القابلة للتحقق»، مضيفاً: «إذا أردت المُطاع فاطلب المستطاع... لذلك يجب أن تتوحد المطالب باتجاه إصلاح جدي وجذري، ومقاربة اقتصادية وسياسية جديدة تقوم على تحييد لبنان عن الملفات الإقليمية، وفي الوقت نفسه العمل حثيثاً على الإصلاح الاقتصادي ومنع الضرائب وإصدار قرارات تحفيزية للاقتصاد».
في الساحة هنا، يفرض التنوع حضوره على المحتجين السلميين. تنوع جندري وسياسي وطائفي، يتظللون جميعاً تحت راية العلم اللبناني وحده. ورغم الرهانات على تناقص العدد بعد فضّ الاعتصام ليل أول من أمس إثر أعمال شغب طالت الممتلكات العامة والخاصة، تزايد العدد بشكل مطرد، حتى ملأت الجموع ساحتي رياض الصلح والشهداء، وصولاً إلى منافذهما، حتى قال البعض إن هذه المظاهرة الكبيرة هي الأولى من حيث العدد والتوحد على المطالب بعد ثورة 14 آذار في العام 2005 بعد اغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، والتي طالبت بإخراج الجيش السوري من لبنان، وهي «تشبه ذلك الحضوري اللبناني الجامع».
وبموازاة تنوع الآمال والأمنيات، وتتنوع الأغنيات بين المجموعات التي يرقص البعض على أنغامها، تتوحد الهتافات ضد السلطة، وسط رهانات عامة على الاستمرار بالتظاهر خلال الأسبوع الحالي ومواجهة الإحباط. وما زال السؤال يتردد بين مجموعة الأصدقاء القدامى قرب تمثال رياض الصلح عن كيفية عبور الأزمة وتحقيق التغيير.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك