أحدثت طرابس أو "عاصمة الشمال" كما يحلو للكثيرين تسميتها، المفاجأة لتلاقي المدن الشيعية المحسوبة على الثنائية الشيعية (حزب الله وحركة أمل) في الحراك الذي يعيش على وقعه لبنان.
وعكست مشاركة طرابلس في الاحتجاجات الشعبية، التي اندلعت الخميس الماضي، توق أهل المدينة ومن خلفها كل الشمال اللبناني، إلى تقديم صورة مشرقة براقة مختلفة عن تلك التي التصقت بالمدينة منذ عقود.
وتفاجأ اللبنانيون أنفسهم، قبل أن تنقل صحيفة "واشنطن بوست" صورة الجماهير المحتشدة في ساحة النور (الساحة التي عرفت قبل ذلك بمشاهد جعلتها أقرب إلى صورة المدينة المتدينة المنعزلة)، بما تختزنه "عاصمة الشمال" من طاقة تلاق واعتدال وانفتاح وحداثة. واعتبر المراقبون أن المدينة خلال أيام استعادت لقبها التاريخي القديم بصفتها العاصمة الثانية للبنان.
وللمدينة سياق تاريخي ملتصق بالتاريخ الحديث للبنان. فبعد هزيمة المقاومة الفلسطينية وحلفائها من اليسار اللبناني والقوى القومية، سقطت طرابلس تحت سطوة التيارات الإسلامية، وعرفت أزقة المدينة انزلاقا نحو الإسلام السياسي بتياراته المختلفة، وشهدت المدينة في الثمانينات صداما دمويا أدى إلى تقهقر قوى اليسار والقوى المدنية لصالح جماعات دينية تعددت أجنداتها.
وفي مرحلة لاحقة سقطت كل هذه الجماعات داخل نفوذ دمشق في لبنان بعد معركة شنّها الجيش السوري ضد المدينة عام 1983 لطرد الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي خرج من طرابلس إثر ذلك بعد تدخل البحرية الفرنسية لإجلائه. ومن ذاك الوقت باتت صورة المدينة تلتصق بصورة الإسلاميين الذين حظوا برعاية الوصاية السورية على لبنان، ثم برعاية وحماية حزب الله وباتوا جزءا من محور "الممانعة" في البلد.
وعادت المدينة لتنشط وفق ما تطلبته الحرب في سوريا من حراك للجماعات الإسلامية دعما للمعارضة هناك. وعملت خلايا طرابلسية على إرسال العشرات من الجهاديين نحو سوريا، ما جعل المدينة قاعدة لتلك الجماعات ومنتجا لها. غير أن هذه الصورة لم تكن تعبر عن حقيقة المجتمع الطرابلسي المتعدد في معتقداته الدينية والسياسية والفكرية.
ولطالما سعى أهل طرابلس للدفاع عن سمعة مدينتهم العريقة والتاريخية، وفي المقابل، لطالما تعرضت المدينة لهجوم شنته منابر العونية السياسية التي تقتات من خطابها المعادي للسنية السياسية عامة لتوسيع شعبيتها المستندة على حملات التخويف من الآخر.
وركزت بروباغندا التيار الوطني الحر على تشبيه المدينة بقندهار، من ضمن خلفية فكرية تعمل على "التهديد السني" للوجود المسيحي، وتعمل في الوقت عينه على تبرير التحالف الذي عقده زعيم هذا التيار ميشال عون مع الشيعية السياسية المتمثلة بحزب الله.
وعلى الرغم من أن البيوتات السياسية الشهيرة في طرابلس، لاسيما آل كرامي وميقاتي والصفدي وكبارة والأحدب والجسر وغيرهم، يمثلون واجهات مدنية معتدلة، إلا أن صورة المدينة المحافظة والمتشددة تكرست خلال السنوات الأخيرة، ثم إن المعارك التي أخذت بعدا مذهبيا بين السنة والعلويين الذين يسكنون منطقة جبل محسن، والتي تناسلت من ظروف الحرب الأهلية اللبنانية، وضعت المدينة داخل مشهد متعصب غير متسامح مع وجود الأقليات.
والحقيقة غير ذلك تماما، فالمسيحيون هم جزء من النسيج الاجتماعي لطرابلس وينعمون بالطمأنينة داخل مدينتهم ولم يتعرضوا لأي تهديد حتى أثناء الحرب الأهلية اللبنانية التي شهدت طرابلس بعضا من فصولها، ثم إن الخلاف مع العلويين لم يكن مذهبيا، بل سياسيا مرتبطا بمعارضة المدينة للنظام السوري، وبالتالي الصدام مع ميليشيات علوية كانت قياداتها تفتخر بالولاء لنظامي الأسد، الأب والإبن في دمشق، إلى درجة أن القضاء اللبناني اتهم هذه القيادات (علي ورفعت عيد) بالوقوف وراء عمليات إرهابية طالت المدينة. وقد نقلت وسائط التواصل الاجتماعي صورا لحالة زحف جماهيري يقوم بها العلويون من مناطقهم في جبل محسن باتجاه قلب المدينة في طرابلس في مشهد يؤكد تجاوز المدينة منذ زمن لجراحها القديمة، كما يؤكد أن تراخي العلاقة بين علويي المنطقة ونظام دمشق أدخل العلويين داخل النسيج الطرابلسي ثم النسيج اللبناني الشامل خلال الاحتجاجات التي شملت كل لبنان.
وتمثل مشهدية الفرح في ساحة النور في طرابلس قطيعة كاملة مع صورة متقادمة سوداء، كما تمثل قطيعة مع مرحلة الإسلام السياسي بنسخاته المختلفة والتي مرت على المنطقة برمتها وهي في حالة تقهقر في المنطقة برمتها.
ثم إن "ثورة" الطرابلسيين ضد الطبقة السياسية التي تحكم لبنان، بل أيضا ضد التقاليد الاجتماعية والدينية المحافظة التي لطالما هيمنت على السلوك الاجتماعي العام في المدينة.
والمفاجأة الأكبر أن المدينة التي تعد خزانا للسنة في لبنان، والتي لطالما تعرضت لضغوط من قبل "سرايا المقاومة"، وهم من السنّة المحسوبين على حزب الله، وجّهت رسالة حب إلى مدينة صور الشيعية في الجنوب حين تعرض الحراك هناك لهجمات قيل إن عناصر من حركة أمل وحزب الله قاموا بها. وهتف الطرابلسيون "صور صور صور كرمالك بدنا نثور"، على نحو يدفن الفتنة التي لطالما عمل حزب الله على الترويج لها لتصليب عصبية مذهبية بدا واضحا أنها تعرضت للتصدع وعلى نحو صادم.
وللمراقب أن يلاحظ أن طرابلس أسقطت عنها ما تبقى من أثقال الإسلام السياسي السني، فيما تسعى مدن، مثل صور والنبطية وبنت جبيل وبعلبك، إلى أن تتمرد على إسلام سياسي شيعي تسرّب إلى يومياتها منذ أن ظهر حزب الله في الثمانينات، وتسلق ليصبح الحزب المهيمن على حاضر الشيعة ومستقبلهم.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك