لليوم الثامن على التوالي يشهد لبنان انتفاضة أشعلتها زيادة في الضرائب قد أقرتها ميزانية 2020، ليرتفع سقف المطالب وتتحول إلى دعوات لإسقاط الحكومة والمطالبة بوضع حد للفساد واسترجاع الأموال المنهوبة.
“سلمية سلمية” هو الهتاف الذي ردده المحتجون الأربعاء، ردا على محاولات من الجيش لفتح الطرقات المغلقة.
الجيش اللبناني أعلن انحيازه إلى الشعب ووقوفه إلى جانب المحتجين، داعما مطالبهم التي وصفها بـ”المحقة”، ومؤكدا التزامه بحماية حرية التعبير والتظاهر السلمي، وأن الجنود منتشرون على الأراضي اللبنانية كافة لمواكبة التحرك السلمي وحماية المحتجين.
مفتي الجمهورية اللبنانية، عبداللطيف دريان، أعلن هو الآخر تأييد دار الإفتاء للمحتجين واحتضانها لمطالبهم، داعيا المسؤولين إلى النظر بإيجابية تجاه مطالب الشعب الذي يعاني من أعباء التدهور في الأوضاع الاقتصادية والمالية بالبلاد.
ولم تتردد الرابطة المارونية في اتخاذ موقف مشابه، أعلنت فيه تأييدها للاحتجاجات الشعبية، وتعاطفها مع أهدافها. ويعتبر رئيس الرابطة أعلى سلطة مارونية في لبنان، بعد رئيس الجمهورية.
صوت الانتفاضة وصل إلى مسامع الجميع، ويجب أخذه بما يستحق من جدية، هذا ما قالته الرابطة في بيان طالبت فيه الدولة بمحاسبة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة. واعتبرت أن استمرار التظاهر حتى تحقيق المطالب، هو أمر مشروع إنسانيا ووطنيا ودستوريا.
مطالب الحكومة بضرورة إخلاء الطرقات لم تنفذ، وردد المتظاهرون الذين افترشوا الأرض النشيد الوطني، لتتضاعف أعدادهم تدريجيا، رغم تساقط المطر، رافعين شعار “ثورة ثورة”، “سلمية سلمية”، وقدموا الورود للجيش موجهين التحية له. وبعد ساعات، انسحبت وحدات الجيش، وأبقت عناصر حماية. واستقبل المتظاهرون ذلك بالتصفيق والتحية. وأمام هذا المشهد ذرف بعض الجنود الدموع تأثرا.
ماذا يحدث في لبنان؟
الذين عاصروا أحداث الحرب الأهلية اللبنانية، بين عامي 1975 و1990، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 120 ألف شخص ونزوح ما يقارب مليون شخص، سيلتبس عليهم الأمر.
هل هؤلاء هم نفس اللبنانيين الذين اقتتلوا في الأمس بشراسة؟ اليوم، لا توجد بأيديهم أسلحة ولا يحيطون وسطهم بالذخائر، أو يرتدون ثيابا مبرقعة.. إنهم فتيات وشبان بأبهى زينة، تفوح منهم روائح العطور، حريصون على نظافة ما حولهم ويحسنون انتقاء شعاراتهم.
وفي بلد تتقاسم فيه الطوائف المناصب، والمحسوبيات فيه هي معيار الحصول على وظيفة، والوراثة السياسية أمر شائع فيه، بدا الحراك جامعا لا يستثني منطقة أو طائفة.
من اقتتل في لبنان بين عامي 1975 و1990 هم الأحزاب والطوائف، ومن خرج اليوم إلى الشارع هو الشعب اللبناني. نعم، العالم تبدل.. تبدل بفعل مستجدين اثنين، الأول سيادة عصر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، التي حولت العالم إلى قرية صغيرة. وتتضح أهمية هذا العامل إذا عرفنا الأهمية الاستراتيجية لنقل المعلومات وإيصالها خلال الحروب، الحروب كانت تربح وتخسر بناء على القدرة في نقل التعليمات. عبقرية المغول والتتار العسكرية التي مكنتهم من تأسيس إمبراطورية امتدت من شرقي الصين إلى تخوم أوروبا الوسطى، لم تكن ركوب الخيل واستخدام السيف، بل طرقهم في إيصال المعلومات.
شباب اليوم هم مغول العصر الحديث، أما الحكومات وأحزابها والطوائف من خلفها فهي جيوش تقليدية مصيرها أن تهزم.
قارنوا ذلك بما حدث في تونس، وهي المستجد الثاني الذي ساهم في إحداث التغيير.
انتفاضة تونس الأولى، أزالت العقبات التقليدية ومهدت الطريق أمام ثورة ثانية، ثورة لن يعود العالم من بعدها كما كان عليه.
التونسيون أثبتوا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي أوصلت الأستاذ قيس سعيد إلى الرئاسة، أن الشعب سيد مصيره، وأنه لم يعد محتاجا إلى وساطات، لقد سيطر على المعلومات وانتقالها، وبمقدوره أن يتجاوز الأحزاب، ووسائل الإعلام التقليدية ليتواصل ويقرر مصيره بنفسه.
لنتساءل، ما هو موقع الأحزاب والزعامات السياسية بما حدث في تونس ويحدث في لبنان اليوم؟ اختفت الأحزاب وغابت، بيسارها ويمينها ووسطها، ولم يعد للزعامات والطوائف من سطوة.
التونسيون قالوا لهم “ديغاج”، واللبنانيون يقولون لهم “ارحلوا”.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك