خلافا للوضع المالي السيء في تركيا واليونان وإسبانيا والارجنتين وأوكرانيا، فإن لبنان تمّيز عن باقي تلك الدول بأنّ عدداً كبيراً من المودعين في المصارف اللبنانية، لم يحول أمواله إلى الخارج لعدم تمكّنه من ذلك.
فهناك فئة أصحاب الإيداعات الكبيرة ومصدرها سوريا والعراق ومصر وتونس وليبيا، وهي بطبيعة الحال أقل ما يقال فيها إنها ستثير أسئلة كثيرة لدى المؤسسات المالية في الخارج، مما جعل تلك الودائع راقدة في مصارف بيروت، بالرغم من كل الازمات المتلاحقة. كما أن المودعين الباقين، اي فئة المبالغ الصغيرة، لا تقبل المصارف في سويسرا ام لوكسمبورغ تحويلها ما دامت لم تتعدّ مبلغ ثلاث ملايين دولار. وفئة ثالثة من كبار المودعين تمكنت في السابق من تهريب اموالها إلى الخارج على مراحل.
وحتى لو تمّ استعمال الودائع الموجودة في مصرف لبنان او فوائدها لتمويل العجز في الموازنة فإن الوضع المالي متجه إلى الكارثة، ولو ان هناك قراراً دوليّاً بمساعدة لبنان. فعدم ضخ سيولة في خزائن المصارف في القريب العاجل سيؤدي إلى انهيار الوضع المالي لتلامس الليرة سقف الخمسة آلاف في سعر الصرف الدولار المحلي، في السوق السوداء. وليس للبنان اي مورد طبيعي جاهز للاستثمار والتلزيم حتى الآن، كالغاز او النفط الخام او إنتاج صناعي او محصول زراعي لتأمين سيولة في حركة السوق المالية. مما يعني اننا سنشهد قريبا تدهوراً سريعاً لمنظومة الهندسة المالية، التي وضعت حديثاً بغطاء العهد، ما لم تستعاد الأموال المنهوبة على مر السنين وبشكلٍ سريع.
وبما أنّ أيّاً من الدول سيتبنّى الوضع المالي في لبنان، كالسعودية وغيرها، خصوصاً في ظلّ الوضع الخليجي، وليس هناك من مساعدات أوروبية خارج إطارِ مؤتمر "سيدر" الذي له شروطه وضوابطه، في ظلّ تساؤل الأوروبيين عن إمكانيّات الحكومة الحالية ونيّتها في حسن إدارة الاحد عشر ملياراً، في ضوء تربّصها بالسلطة وعدم القيام بأي خطوة إصلاحية. وكيف سيثق الاوروبيّون بمن نهب وهدر اموال وطنه لسنوات، من دون رقيب او حسيب، رغم مرور ثلاث سنوات على عهد الإصلاح والتغيير!
وهل سيكون الحل كما يفعل دائما أمراء الحرب بإثارة النعرات الطائفية والدسائس المغرضة لدفع الشارع إلى زواريب الحرب الأهلية ليستمر هؤلاء بهيمنتهم على العباد، خصوصاً ان معظمهم انتقل من صفوف الميليشيات إلى مراكز القرار الرسمية بذهنٍ ميليشياوي انما بقناع رجل دولة. وهل يمكن لأيّ سياسي أو زعيم أو رئيس تيار ان يفسر لنا كيف يحتكم الى الشارع عبر ذرّ الإشاعات والنزعات الانقسامية والتعرض للمدنيين الثوار العزّل بدلا من الاحتكام إلى الدستور والقوانين؟
لماذا لم يتوقف الهدر؟ أين رجالات الدولة الذين سمّاهم العهد للمحاسبة من التعيينات في الإدارة؟ ولماذا لم تتوقف السرقة في الجمارك بين المخلّصين الجمركيين ومن يغطي الاختلاسات في مرفأ بيروت ومن يلاحق الهدر في الصناديق ومن يراقب عمل الهيئات الناظمة والمجالس الرسمية واللجان؟ لماذا تتمّ إحالة اي موظف فاسد؟ أين رؤساء المؤسسات العامة العقابية من تاريخ تعيينهم حتى يوم الثورة؟ ويأتي المسؤول الذي رفع شعار مكافحة الفساد ليقول: تعالوا للتفاوض. التفاوض على ماذا، على منظومة فساد تختلس من المال العام؟ ام على موظفين مجرمين في حق الوطن والمواطن؟ ام على قضاة بدأ بعضٌ منهم يستفيق من ثباته العميق في التبعية والتزلم؟ كيف يمكن لقاضٍ ان يستدين ملايين الدولارات من المصارف ومن أين سيتمكن من دفع أقساط الفوائد الشهرية، بينما القضاة ينادون برفع رواتبهم ومخصصاتهم، وقد تمنعوا عن العمل وأضربوا لعدم المس بها بعد صدور مشروع موازنة ٢٠١٩ وليس بالأمس البعيد؟
من يغطّي مَن يا سادة؟ طبعا لا شيء سيتغير على أباطرة الحروب سوى هندامهم، فمن البزة الرسمية اليوم إلى البزة الطائفية غدا التي لم يخلعها أصلاً أي منهم في ذهنه. هل نسي اللبنانيّون انه في شباط من العام ١٩٧٥ تداعى شبان من المناطق والطوائف اللبنانية كافة إلى ساحتي رياض الصلح والشهداء وأنشدوا: ما بدنا طائفية، بدنا وحدة وطنية، اسلام ومسيحية! وماذا حصل؟ اندلعت حينها الحرب الاهلية وسقط مئة الف قتيل والزعماء حينها ما برحوا زعماء اليوم، لذلك سيبقى لسان حال الثوار واحداً... إرحلوا.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك