لم تقتصر المفاعيل المباشرة للحراك الشعبي على استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، بل شملت أيضاً قوى سياسية أساسية وجدت نفسها فجأة وسط العاصفة، كما هي حال «التيار الوطني الحر» وتكتله النيابي «لبنان القوي» الذي كان مكوناً قبل 17 تشرين الاول من 29 نائباً، ليتقلّص العدد بعد هذا التاريخ الى 27 نائباً بعد خروج العميد شامل روكز ونعمت افرام من صفوفه.
صحيح أنّ النائبين روكز وافرام خاضا الانتخابات النيابية على لائحة «التيار» في كسروان، وبالتالي شكّلا طيلة المرحلة الماضية جزءاً من نسيج تكتله، إلّا انّهما لم يتأخّرا بعد الانتخابات في إظهار تمايزهما عنه، ولو تحت سقفه، على قاعدة انّهما يملكان خصوصية سياسية وشخصية، وانّهما تحالفا مع «التيار» انطلاقاً من هذه الحيثية الخاصة ولم يكونا يوماً من المنتسبين اليه ولا من حَمَلة بطاقته الحزبية.
نجح «التيار» والنائبان المستقلان خلال الفترة السابقة في تنظيم التباينات والتمايزات التي بقيت تحت السيطرة ومضبوطة على إيقاع التنوع ضمن الوحدة، بل انّ القيادة البرتقالية تباهت بهذا التعدد في الآراء، واعتبرته عنصر قوة وقيمة مضافة، يؤشران الى مساحة واسعة من الديموقراطية في «تكتل لبنان القوي».
لكن، ومع مرور الوقت، راحت رقعة الاختلاف تكبر، ما دفع روكز منذ مدة الى اتخاذ قرار بمقاطعة اجتماعات التكتل، من دون أن يقطع كلياً الخيط الرفيع الذي كان لا يزال يربطه به.
ثم ما لبث هذا الاختلاف ان تحوّل خلافاً مكشوفاً وعلنياً بعد هبوب رياح 17 تشرين التي أعادت فرز الاتجاهات داخل التكتل، حيث تعاطف كل من افرام وروكز مع المتظاهرين بأشكال عدة، بينما كان يجري تصويب كثير من الهتافات الحادة نحو الوزير جبران باسيل، وبدرجة أقل الرئيس ميشال عون.
وفي عزّ الحراك الشعبي، قرّر افرام وروكز الخروج من صفوف «التكتل» ووضع حد للتعايش الاضطراري مع قيادة «التيار»، حيث اعتبر كل منهما انّ لديه من الرصيد السياسي والشخصي ما يكفي للانفصال والاستمرار في العمل السياسي بشكل مستقل.
بالنسبة الى افرام وروكز، يعكس خيارهما بالانفصال عن «لبنان القوي» انسجامهما مع قناعاتهما، ويترجم اعتراضهما على النمط الذي كان معتمداً في التعامل مع التحدّيات التي تواجه لبنان. ولعلهما وجدا في ولادة الحراك فرصة لإنهاء العلاقة الملتبسة مع «التيار» وللتحرّر من الموجبات او الاعباء التي يرتبها وجودهما في صفوف تكتله.
لكن مقاربة التيار لهذا الخروج مختلفة تماماً. لم يكن أمراً بسيطاً بالنسبة اليه ان ينقلب افرام وروكز عليه في عزّ الاستهداف الذي تعرّض له من قِبل بعض مكوّنات الحراك، الى جانب الهجوم على رئيس الجمهورية.
وفق تقدير «التيار»، أسوأ ما في الامر يكمن في طبيعة اللحظة التي اختارها النائبان للخروج من «التكتل». التوقيت هنا ليس ثانوياً، من وجهة نظر البرتقاليين، بل يعكس نوعاً من الطعن في الظهر «حين كنا نواجه أخطر حملة على «التيار» ورئيسه وعلى رئيس الجمهورية».
ويقول مصدر بارز في «التيار»، انّ ما فعله النائبان المنسحبان هو موضع أسف، «الّا انّه لم يؤثر لا في المعنويات ولا في صلابة التزامنا القضية التي ندافع عنها». ويعتبر أنّ طريقة انفصالهما عن «التكتل» تشبه وضع المقاتل الذي يترك ساحة المعركة ويختار التراجع والتخلّي عن رفاقه بدل ان يصمد الى جانبهم.
ويلفت المصدر، الى انّه ربما شُبّه للبعض انّ الوزير باسيل صار ضعيفاً وأنّ هذا هو التوقيت المناسب للانقلاب أو الانقضاض عليه، معتبراً انّ هذا البعض تصرّف بناء على حسابات ضيّقة قد تكون انتخابية، في وقت كان التيار، ولا يزال، يخوض معركة الدفاع عن مصير الوطن.
روكز يرد
في المقابل، يؤكّد روكز لـ«الجمهورية»، انّه لا ينتظر شهادة في الوطنية من أحد، «وما يهمّني هو التزامي الوقوف حصراً مع رئيس الجمهورية ميشال عون لانقاذ الدولة من الموبقات والارتكابات التي تتهدّدها».
ويضيف: «لست ممن يركبون الموجات، بل انا من الذين يواجهونها عندما تدعو الحاجة، وبالتالي فانّ دعمي مطالب الناس وحقوقهم لم يكن ركوباً لموجة الحراك، وانما كان انحيازاً طبيعياً الى جانب الشعب، وهذا هو موقعي الطبيعي وليس في اي مكان آخر».
ويلفت روكز الى انّه، وقبل خروجه النهائي من «التكتل» أخيراً، كان قد توقف عن المشاركة في اجتماعاته منذ ان اختلف معه حول موازنة 2019 التي «رفضتها لأنّها تمسّ حقوق العسكريين والقضاة وذوي الدخل المحدود»، مشيراً الى انّه كان في الأساس يحضر جلسات «التكتل» من باب الوفاء للرئيس عون تحديداً، وليس لأي سبب آخر، «خصوصاً انني لست حزبياً ولا انتمي رسمياً الى «التيار الحر»».
ويوضح، انّ انفصاله يعود الى أنّ «التكتل» اعتمد خطاباً معاكساً لنبض الناس المتألمين، وقلّل من شأن التظاهرات الاحتجاجية التي تعود الى أسباب وجيهة، من بينها تفشي الفساد وغياب المحاسبة وتفاقم الهدر ومحاولة فرض ضرائب جديدة، وكأن المطلوب ان لا يبقى قرش واحد في جيوب المواطنين.
ويستغرب روكز «كيف ان ما كان مستحيلاً ومرفوضاً اصبح بين ليلة وضحاها ممكناً ومقبولاً بفضل الورقة السحرية التي اقرّتها الحكومة المستقيلة»، متسائلاً: «ما دام بمقدورهم وضع موازنة خالية من الضرائب والرسوم واتخاذ قرارات اصلاحية، فلماذا تأخّروا كل هذا الوقت، ولماذا أمعنوا طويلاً في التصدّي للطروحات التي كنا ننادي بها؟»
ويشير الى انّ «الاقتراحات بالضرائب كانت تأتي أحياناً من تكتل «لبنان القوي» الذي يبدو انّ اسمه لم يعد ينطبق عليه، لأنّ كثراً من الناس صاروا ضده نتيجة السياسات التي اتبعها، بعدما كان يتغنى بقوته في الشارع وبأنّه النهر الجارف»، منتقداً اصرار احدهم في «التكتل» على معادلة «انا او لا أحد».
ويشدّد روكز على انّ معظم الذين تظاهروا غير معادين للرئيس عون، «بل هم ناسه ومطالبهم هي أهدافه، وتوجد بينهم شريحة واسعة تنتمي الى بيئة «التيار»، وبالتالي فانّ هذه الانتفاضة الشعبية تشكّل فرصة لرئيس الجمهورية كي يستعيد المبادرة ويطبّق الاصلاحات التي يطمح اليها».
ويعتبر انّ هناك حاجة الآن الى التغيير يليه الاصلاح، «والتغيير يبدأ بتشكيل حكومة اختصاصيين، من اصحاب الكفاءة والكف النظيف»، مؤكّداً ضرورة ان تكون هذه الحكومة منسجمة بعيداً من المناكفات، وان تُمنح صلاحيات استثنائية في مجالين هما: الاصلاح القضائي ومكافحة الفساد.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك