يستنزف التجار ومحتكرو الاستيراد مالية الدولة ومواطنيها على السواء.. حفنة من كبار التجار والمتماهين بشراكات مع سياسيين وأحزاب وطوائف يستأثرون بصحة ومعيشة شعب بأكمله. يُحكمون الخناق على القطاعات الأساسية للدولة ويتحكمون بما نستهلك، وكم نستهلك ومتى نستهلك.
هؤلاء هم من دفع بالمواطنين إلى الاصطفاف بطوابير المخابز ومحطات المحروقات، وسيدفعونهم إلى طوابير أمام الصيدليات قريباً.. ليسوا وحدهم من يستنزف أموالنا وأموال الدولة، فهناك زملاء لهم من مستوردي وتجار 90 في المئة مما نستهلك في لبنان. لكن يبقى للقطاعات الثلاثة، المحروقات والطحين والأدوية، الحيثية الخاصة لأهميتها وارتباطها في الحياة اليومية للمواطن.
لطالما عمد تجار ومستوردي القطاعات الثلاثة المذكورة إلى اتخاذ المواطن أداة ضغط على الحكومة لدفعها إلى تلبية مطالبهم، وآخرها المطالبة بحل أزمة شح الدولار الواقعه منذ شهرين، والتي مهّدت وساهمت بانفجار الشارع في 17 تشرين الأول. وعلى الرغم من إحكام التجار قبضتهم على المستهلك اللبناني، فإنهم يجنون مئات ملايين الدولارات من دون حسيب أو رقيب. والسؤال ماذا لو احتكرت الدولة حق استيراد الطحين والمحروقات والأدوية، كم كانت ستوفر على المواطن وعلى الخزينة العامة؟
المحروقات
قرابة 13 شركة مستوردة للنفط تسيطر على عملية استيراد المحروقات إلى لبنان منذ عشرات الأعوام، بينها 5 أو 6 شركات كبرى تستحوذ على نحو 50 المئة من القطاع، تستورد الشركات ما يتراوح بين مليون و500 ألف طن، ومليون و600 ألف طن من البنزين سنوياً، و900 ألف طن من المازوت الأخضر، وما بين 140 و160 ألف طن من الغاز سنوياً، قيمتها الإجمالية تقارب 3.3 مليار دولار سنوياً. ومن المُقدّر أن تنخفض فاتورة المحروقات عدة مئات من ملايين الدولارات في حال تم استيراده من قبل الدولة. إذ يصل حجم الأرباح التي تحققها الشركات المستوردة للمحروقات إلى 450 مليون دولار سنوياً، بحسب الخبير الاقتصادي زياد ناصر الدين في حديث إلى "المدن"، وإذا استعادت الدولة مهمة استيراد الفيول والمحروقات، فذلك يتيح لها تسهيلات وفترة سماح وحسومات بحكم استيراد "دولة من دولة" وهو ما يستفيد منه حالياً الوكيل، كما يمكن أن توفر الدولة نحو 500 مليون دولار من فاتورة المحروقات عموماً. ومن المقدّر أيضاً أن تتراجع أسعار البنزين نحو 18 في المئة، فيما لو استلمت الدولة عملية الاستيراد أو على الأقل كسرت الاحتكارات، وفتحت باب المنافسة بين الشركات.
الطحين
أما قطاع المطاحن، فتحتكر 5 مطاحن في لبنان عملية استيراد القمح الطري، المخصّص للخبز والطحين، وتستأثر بقرار اختيار النوعية ومستوى الجودة. فلا عائق يحول دون استيراد القمح الرديء غير الفاسد. تستورد المطاحن نحو 900 ألف طن من القمح الطري سنوياً. وكانت ارتفعت الكميات المستوردة من 450 ألف طن إلى 900 ألف طن مع ارتفاع أعداد النازحين السوريين إلى لبنان، وتزايد الحاجات الاستهلاكية. ويُنتج لبنان من أراضيه الزراعية نحو 60 ألف طن من القمح الطري.
تستورد المطاحن بأسعار متفاوتة للطن الواحد تصل إلى 3 آلاف دولار للنوعيات الجيدة من القمح الطري، وتقل عن ذلك مع تراجع الجودة، وتبلغ تكلفة المستوردات من القمح الطري ما لا يقل عن 2.5 مليار دولار سنوياً.
وفي حال تولت الدولة عملية استيراد القمح الطري بدلاً من المطاحن، يقول مصدر رفيع في وزارة الزراعة، فإنها من دون شك يمكن أن تستورد أجود أنواع القمح الطري بما لا يزيد عن 2000 دولار للطن الواحد، وذلك حسب الأسعار العالمية. ما يعني أن فاتورة القمح الطري (الطحين لاحقاً) من الممكن أن تنخفض بما لا يقل عن 700 مليون دولار سنوياً، في حال أخذت الدولة عملية الاستيراد على عاتقها.
وقد خاضت وزارة الزراعة تجربة مماثلة إلى حد ما، أثبتت نجاحها وجدواها بعد كف يد التجار عن استيراد بذار القمح الصلب والشعير، فقد كان التجار يستوردون نحو 8 آلاف طن من بذار القمح الصلب المخصص للصناعات الغذائية، وألفي طن بذار شعير سنوياً. ويبيعون كيلوغرام البذار إلى المزارعين بأسعار تتراوح بين 1000 و1500 ليرة، وحين قررت الوزارة تطوير البذار للمزارعين واجه قرارها معارضة شرسة من التجار، وكانت النتيجة وفق مدير عام مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية ميشال افرام في حديث إلى "المدن"، نجاح مصلحة البحوث بتأمين بذار غير مستورد، مؤصل ومغربل ومعتمد عالمياً، مقاوم للتغيرات المناخية. كما تمكن المركز من العمل على زيادة الكميات حتى أنه بات يؤمّن حاجة المزارعين في لبنان بالكامل. وحقّق اكتفاءً ذاتياً من دون استيراد، مع القدرة على تصدير البذار إلى دول المنطقة.
أما في ما خص الأسعار فيبلغ كيلوغرام بذار القمح المسلّم من قبل الوزارة إلى المزارعين 575 ليرة، وكيلو بذار الشعير 450 ليرة، وذلك يمثّل ثلث السعر الذي كان يبيع وفقه المستورد للمزارع. ويؤكد افرام أن الوزارة عملياً وفّرت ثلثي التكاليف على المزارعين.
الأدوية
يملك أكثر من 120 مستورد في لبنان رخصة استيراد الأدوية، بينهم 3 شركات تستحوذ على 40 في المئة من مجمل حجم الاستيراد. وحدها شركة "مرساكو" وهي أكبر شركة لاستيراد الأدوية في لبنان تملك ما يقارب 20 في المئة من حصة السوق.
تستورد الشركات الخاصة نحو 3300 صنف من الأدوية، وتتحكم بسعر المبيع. تبلغ تكلفة فاتورة الدواء نحو مليار و600 مليون دولار، وفق أرقام العام 2018، ووفق رئيس "الهيئة الوطنية الصحية الاجتماعية"، النائب السابق الدكتور إسماعيل سكرية، في حديث إلى "المدن"، فمن المتوقع خفض فاتورة الأدوية بين 700 و800 مليون دولار سنوياً. أي نحو 50 في المئة من الفاتورة، في حال عمدت الدولة إلى استيراد الأدوية. فالفاتورة وفق سكرية تتوزع بين السعر الأساسي للدواء وأرباح المستوردين والسمسرات. ويستشهد سكرية بتجربة اللواء الطبي في الجيش اللبناني، وتمكنه من خفض أسعار الأدوية المستوردة عن طريق التفاوض. تجربة أخرى يستشهد بها سكرية تعود إلى الحقبة الرئاسية للرئيس الأسبق إميل لحود. فقد تم خفض قيمة الأدوية المستوردة لصالح المؤسسة العسكرية آنذاك من 15 مليون دولار إلى 5 ملايين دولار للكميات نفسها.
ويكفي إجراء جولة سريعة على أسعار بعض الأدوية في دول الجوار كتركيا ومصر والأردن ومقارنتها مع الأسعار المعمول بها في لبنان، ليتضح لنا حجم الاستنزاف الذي يمارسه التجار على الدولة والمواطن.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك