جرف الغضب الشعبي الذي عمَّ الطرقات منذ 17 تشرين الأول الماضي الطروحات الفئوية كلّها. حتى المطالب الخاصة التي حملها المتظاهرون هي حقوق عامة. الدولة لا تؤدّي واجباتها لا في طرابلس ولا في كسروان ولا في النبطية، وإن بتفاوت، من التعليم إلى الإستشفاء وفرص العمل والطرقات والمياه والكهرباء والمواصلات الى كلّ الملفات الحياتية. أمام أساسيات الحد الأدنى من الحياة الكريمة يسقط أيّ طرح فئوي، فغابت من ساحات الإحتجاجات «حقوق» المسيحيين التي دأب «زعماء» الطائفة على حملِها في خطاباتهم وتأكيد السعي إلى «استردادها». لا أهالي البترون طالبوا بالمناصفة، ولا أهالي جبيل انتفضوا على عدم تحقيق التوازن في الدولة، ولا بكى المعتصمون في الزوق لخسارة أيّ صلاحيات أو أُغلق أوتوستراد جل الديب خوفاً على الوجود.
أظهرت «ثورة 17 تشرين» أنّ الخطاب الفئوي المُوجّه الى المسيحيين لم يؤتِ ثماره. لا صوت يعلو فوق صوت «العيش بكرامة»، خصوصاً في ظلّ غياب أيّ قضية كيانية أو وجودية حقيقية. الآن ليس زمن «طريق القدس تمرّ في جونيه»، وليست مرحلة الحرب الأهلية، ولا مرحلة الإحتلال السوري. في 2019، العماد ميشال عون لم يعد منفياً بل رئيساً للجمهورية، ويملك «التيار الوطني الحر» أكبر كتلتين نيابية ووزارية.
كذلك خرج رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع من المعتقل السياسي، وتتمثّل «القوات» في السلطتين التشريعية والتنفيذية بحصة وازنة. حتى خطر الإرهاب وتهديد «داعش» اختفيا في هذه المرحلة. أمّا التخويف من «الآخر» فلم يعد يجدي في ظلّ التسويات المختلطة والمتعددة الأطراف. وبالتالي لم يعد بالإمكان إقناع المسيحي بخطابات لا تتلاءم ومتطلبات المرحلة.
الى تاريخ 17 تشرين الأول 2019، كانت جهات سياسية مسيحية، أبرزها «التيار الوطني الحر»، ما زالت متمسكة بحمل خطاب تحقيق المناصفة في الوظائف والشراكة الحقيقية والتوازن في الدولة واستعادة حقوق المسيحيين المسلوبة في «اتفاق الطائف»، إن على صعيد صلاحيات رئاسة الجمهورية عبر ممارسة «الرئيس القوي» أو على مستوى التعيينات الإدارية، وفرض الموقف المسيحي الذي يمثّله الفريق المسيحي الأقوى في السلطة... فضلاً عن التخويف من تهديد اللاجئين والنازحين للوجود المسيحي... لكن الذين افترشوا الطرقات من المسيحيين، برهنوا أنّ ليست هذه الحقوق التي يريدون الحصول عليها أو استعادتها، بل طالبوا بحقهم في:
تعليم أولادهم في المدارس الخاصة أو تحسين التعليم الرسمي، الحصول على مستحقاتهم من صندوق الضمان الاجتماعي من دون «بهدلة» في مراكز الضمان، استعادة القيمة الشرائية لرواتبهم وعدم اضطرارهم لاحتساب «الليرة» بغية إبتياع «غرضين» من السوبرماركت، وتعليم أولادهم في الجامعات من دون أن يُجبروا على بيع أراضيهم أو منازلهم، ثمّ يهاجر أولادهم بسبب عدم توافر فرص العمل في لبنان، فيخسرون جنى عمرهم وفلذة أكبادهم...
المسيحي مثل أيّ لبناني مهما كان انتماؤه الطائفي أو المناطقي أو الحزبي، تعب من استهلاك الفواتير كلّ راتبه مقابل خدمات متدنية النوعية، فضلاً عن الضرائب والرسوم التي تُجبى أو «تُنهب» منه سنوياً من دون أن يُصار إلى إعادة توزيعها. المسيحي يريد أن يُوظّف استناداً الى كفاءته لا أن يستجدي الزعيم ليؤمّن له حقاً بديهياً، ما يجعله رهينة لهذا «الزعيم» ومُجبراً على انتخابه «لردّ الجميل».
المسيحي يريد أن ينجز معاملاته الرسمية بسرعة وشفافية بصرف النظر عن هوية المُوظف الذي يتعامل معه، لا أن يضطر إلى الإنتظار أياماً وأسابيع وأشهراً في إدارات الدولة، وإلى دفع الرشاوى للموظفين ليتمكّن من الحصول على توقيع معاملة بسيطة.
على صعيد الحُكم، عاد المسيحيون الى السلطة في 2005 بعد 15 عاماً من الاضطهاد إبّان الإحتلال السوري. أمّا مشاركتهم الفعلية في السلطة فتحققت في عام 2016 مع انتخاب عون رئيساً للجمهورية، ثمّ إقرار قانون انتخاب اتفق «التيار» و«القوات» على أنّه يؤمّن صحة التمثيل المسيحي، وتمثّلهم في الحكومة بالأحزاب التي انتخبوها. وحظي «التيار الوطني الحر» بغالبية التمثيل المسيحي، إن على صعيد رئاسة الجمهورية أو في مجلسي النواب والوزراء، تلته «القوات اللبنانية».
على صعيد الخطاب، ابتعدت «القوات» في المرحلة الأخيرة عن خطاب «استعادة الحقوق» وركّزت على الشأن الإقتصادي، وكان رئيس «القوات» سمير جعجع سبّاقاً في طرح استقالة الحكومة وتأليف حكومة إختصاصيين حيادية مثلما يُطالب «ثوار 17 تشرين». أمّا حزب «الكتائب اللبنانية» فرفض التسوية الرئاسية في 2016 وخاض انتخابات 2018 بخطاب مختلف يركّز على الشؤون الحياتية، واختار خطّ المعارضة ما بعد الانتخابات.
واستبق رئيس الحزب النائب سامي الجميّل الغضب الشعبي، ودعا الى النزول الى الشارع في أكثر من محطة. من جهته، ابتعد تيار «المرده» خلال مسيرته عن الخطاب الفئوي، فهو يعتبر أنّ دور الطوائف المسيحية تاريخياً هو دور سياسي وليس مشروع توظيف.
«التيار الوطني الحر» بقي وحده متمسكاً بخطابٍ يحاكي «حقوق» المسيحيين، الأمر الذي استفزّ الفئات الأخرى، وتماهى هذا الخطاب مع خطاب رئيس الجمهورية الذي وجّه رسالة الى مجلس النواب لتفسير المادة 95 من الدستور لجهة المناصفة. وإذ صودف موعد الجلسة الذي كان مُحدداً في 17 تشرين الأول قبل أن يُؤجّل، مع انطلاق الانتفاضة الشعبية، إلّا أنّ الغضب التشريني فجّرته الرسوم والضرائب، لا تأجيل تفسير مفهوم المناصفة.
حتى بكركي وعلى رغم من دعمها عون وباسيل في معركة «استعادة الحقوق» وتأمين الشراكة، تنبّهت باكراً الى تداعيات الوضع الإقتصادي - المعيشي، خصوصاً في البيئة المسيحية. فالصرح البطريركي يختزن بين جدرانه أصوات الموجوعين والغاضبين، ولمس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في السنوات الأخيرة مدى تفاقم العوز والشكاوى وطلب المساعدة على كلّ المستويات، و»كم أنّ الحاجة كبيرة». كذلك، لمس مدى تفاقم نقمة الناس وفقدانهم الثقة بالسلطة الحاكمة، فكان موقفه واضحاً منذ ما قبل تأليف «حكومة الى العمل» بتفضيله تأليف حكومة اختصاصيين مصغّرة ومنتجة وبعيدة من التجاذبات السياسية.
ويرى معنيون، أنّ «انتفاضة 17 تشرين» أظهرت في العمق أنّها ثورة القواعد الشعبية على ممثليها، وأنّ المنطق السياسي يفرض الآن إجراء مصالحة بين الناس والدولة من جهة، وبين الأحزاب وقواعدها وبيئتها من جهة ثانية. وهذه المصالحة تتطلب من الأحزاب إجراء مراجعة ذاتية والإنتقال من الإدارة الحزبية العائلية إلى إدارة الكفايات، على غرار انتقال السلطة التنفيذية الى أصحاب كفايات.
ويعتبرون أنّ هذه المرحلة تتطلّب من أحزاب السلطة اتخاذ خطوة جريئة بالخروج من السلطة، وترك القرار للناس ليختاروا ممثليهم في الانتخابات النيابية المقبلة، إذ لا يُمكن مواجهة حكم الشعب.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك